محمد هاشم عبد السلام
تصعب جدا مشاهدة الفيلم الوثائقي “ضعي روحك على كفك وامشي” (Put Your Soul on Your Hand and Walk)، للمخرجة الإيرانية زبيدة فارسي، مع أنه ليس من الأفلام المعقدة من حيث البناء أو التركيب، ولا من تلك النوعية الصعبة في مشاهدتها أو استيعابها إجمالا، لكن صعوبته تتأتى من أسباب متعلقة بموضوعه، الذي يثقل على القلب.
كما يصعب أثناء المشاهدة عدم التورط عاطفيا مع بطلته، الشهيدة المصورة الصحفية الشابة فاطمة حسونة، واستحالة تحييد المرء لمشاعره تجاه شخصيتها الصلبة وروحها الأخاذة، أو إيقاف سيل الأفكار والتصورات المرتبطة بالفيلم، وبما آلت إليه حياة بطلته.
يتساءل المشاهد أي مصير أو حياة كانت ستحياها فاطمة الآن، لو كان العمر قد امتد بها، قبل أن تغتالها وأسرتها القذيفة المتعمدة التي أطلقها جيش الاحتلال على منزلها، ليلة 16 أبريل/ نيسان 2025، فاستُشهدت مع عشرة من أفراد عائلتها، ومنهم أختها الحبلى.
نرتبط على مدى ساعتين تقريبا بشخصية الشهيدة الشابة فاطمة حسونة (1999-2025)، فأفكار وتصورات وتخيلات مثل هذه يصعب أو يستحيل -حتى على الناقد السينمائي المتمرس- ألا يتأثر بها، أو أن يظل باردا أو محايدا، أو أن يبقى كما كان قبل مشاهدة الفيلم.

ليس هذا بسبب أن مادة الفيلم عن الفظائع المقترفة في غزة منذ اندلاع حرب الإبادة على القطاع وأهله، بل لكونها ترصد لحظات إنسانية حميمية دافئة وصادقة مع الشهيدة الراحلة، يستحيل أن لا تهز المرء وتؤثر فيه تأثيرا بالغا.
فكل دقيقة نشاهد فيها ملامحها، ونعاين شخصيتها وتفكيرها تقرّبنا منها أكثر، على نحو مؤثر ووثيق وعميق، مع إدراكنا سلفا أنها لم تعد موجودة بيننا، وأننا نعاين لحظاتها الأخيرة.
وثيقة ستظل شاهدة على جرم لا يمحى
في ظل ظروف مغايرة، كان من الممكن جدا أن يمر فيلم “ضعي روحك على كفك وامشي” كغيره من الوثائقيات الكثيرة التي شاهدناها، وتأثرنا بها على مدى سنوات عديدة مضت.
وقد تمثلت أهميتها في أنها نقلت لنا كوارث وأهوالا وفواجع من الثورات والحروب التي مرت بها بلداننا العربية من تونس إلى ليبيا وسوريا، قبل أن تتركز الأنظار حول طامتنا العربية الكبرى في العصر الحديث.

تلك الطامة الكبرى هي غزة وما يحدث فيها من عدوان غاشم، يهدف للتنكيل بشعب أعزل، يطالب بحريته ويدافع عن أرضه، ثم ارتكاب مذابح متعمدة، تهدف لتطهير عرقي، وقتل ممنهج، وتهجير مبيت، ومحو مدبر لهوية أمة وشعب، وإفناء مدينة استعصت منذ عقود على التطويع والانصياع للتطويق والحصار الإسرائيلي المدبر عمدا، لتحويلها لأكبر سجن مفتوح في العالم.
صاروخ موجه أحدث نتيجة عكسية
أطلق جيش الاحتلال صاروخا قيل إنه كان موجها عن قصد، نحو منزل الشهيدة فاطمة حسونة وعائلتها، وقد لفت ذلك الاغتيال المتعمد الأنظار بشدة للوثائقي “ضعي روحك على كفك وامشي”، فدفع الفيلم إلى الصدارة، وجعله من أكثر الأفلام الوثائقية الجديدة طلبا للعرض والمشاهدة، في المهرجانات السينمائية الدولية وغيرها.
حدث ذلك بعد عرضه الأول في الدورة الـ78 من “مهرجان كان السينمائي الدولي” (13-24 مايو/ أيار)، وفي أحدث عروضه الجماهيرية الحاشدة بفعاليات الدورة الـ59 من “مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي”، (4 -14 يوليو/ تموز). كما رُتب لعروض تجارية للفيلم في السينمات العامة، وتضاعفت طلبات توزيعه حتى في أمريكا، ناهيك عن دول غربية عدة.
وعوضا عن إسكات صوت فاطمة الفاضح لإجرام عدو، وعار عالم لا يحرك ساكنا، وبدلا من إجهاض الفيلم برمته، والدفع به لغياهب النسيان، إذا به يحلق في أنحاء العالم، لا لفضح ما يقترفه الاحتلال الغاشم في غزة منذ أكثر من عام، بل ليظل الفيلم وثيقة تاريخية دامغة تدين العدو، وتدين عجز العالم، وتدين صمتنا أيضا.
هذا ما يجعله متجاوزا لموضوعه الأساسي، فيصبح ذكرى للمصورة الصحفية الشابة فاطمة حسونة، ولغيرها من الصحفيين الغزيين، الذين استهدفوا عمدا في هذه الحرب، ويزيد عددهم، منذ 7 أكتوبر/ تشرين ثاني 2023 عن 211 صحفي وصحفية. كما أنه أيضا وثيقة شاهدة على أرواح كثير من الضحايا الأبرياء، الذين استشهدوا في حملة إسرائيل الوحشية المتواصلة على غزة.
فاطمة حسونة.. حوارات مع شابة من الداخل
من حيث التكوين والاشتغال السينمائي على امتداد الفيلم، لا يعدو الوثائقي كونه مجموعة أو سلسلة من اللقاءات، أو بالأحرى مكالمات فيديو بين المخرجة زبيدة فارسي والشهيدة فاطمة حسونة. وقد أجريت اللقاءات على مراحل متفاوتة منذ أبريل/ نيسان 2024 حتى أبريل/ نيسان 2025.
قبل يومئذ، لم تكن المخرجة زبيدة فارسي تعرف فاطمة حسونة ولا سمعت بها، فقد كانت في القاهرة تحاول دخول غزة من معبر رفح البري، حتى تبينت لها استحالة ذلك، لكنها لم تستلم للأمر. وبدافع رغبتها الملحة في إطلاع العالم على ما يجري في هذا الشريط الصغير المحاصر المحتل الآن، طلبت المخرجة زبيدة من صديق لها يدعى أحمد -لم تذكر إلا أنه من حي فاطمة- التواصل مع مقيم في غزة، يكون على تفاعل مع الأحداث، بحيث يمكّنها من نقل ما يحدث في الداخل وإطلاع العالم عليه.
من هنا، بدأ التواصل مع فاطمة حسونة، ونرى تعرف المخرجة عليها في أول مكالمة، ثم تطورت العلاقة بينهما وتوطدت أواصر الصداقة على مدى عام تقريبا، ونرى كل ذلك حتى آخر مكالمة بينهما، قبل استشهاد فاطمة. ومنذ اللقاء الأول، تعين على المخرجة زبيدة اللجوء إلى تصوير المحادثات الهاتفية بهاتف آخر، لإظهار وجه فاطمة حسونة أو وجهيهما معا في نفس الإطار. من ناحية أخرى، من المعروف مدى صعوبة توفر الإنترنت، ومدى انقطاع الاتصالات في قطاع غزة منذ اندلاع الحرب، ولذا كثيرا ما كانت المكالمات تنقطع أو تتوقف الصورة، أو يضيع الصوت، أو تعجز إحداهما عن سماع الأخرى، وغيرها من مشكلات الإنترنت.
لكن المثير في الأمر أن المخرجة آثرت الإبقاء على كل هذه الأمور أو الأعطال، ولم تحذفها، فالترك العمدي لصعوبات التواصل، وأحيانا استحالته، كان جيدا جدا، لإطلاع العالم أيضا على بعض من أهوال ما يكابده أهل غزة من انقطاع عن العالم.
صور مبهرة بعدسة فنانة متعددة المواهب
تستبق المخرجة كل لقاء بكتابة تاريخ انعقاده، كما تتعمد نقل لقطات سريعة من نشرات الأخبار المبثوثة على التليفزيون في منزلها، من محطات عدة منها “سي. إن. إن” والجزيرة و”فرانس 24″. وذلك لرسم الأحداث الرئيسية، أو لخلق صورة عامة أو خلفية عن التطورات الجارية في شتى أزمنة تصوير الفيلم، لا سيما ما يتعلق منها بمفاوضات إنهاء الحرب، أو الدخول في هدنة أو تمديدها، أو فشل المفاوضات، وإنهاء الحصار، وإدخال المساعدات، وحكم محكمة العدل الدولية، وغيرها من الأمور.
كما تتعمد من حين لآخر استعراض صور فوتوغرافية مصقولة، التقطتها عدسة فاطمة، وكانت رائعة ومؤثرة وفنية، وأسهمت في بروز اسمها وموهبتها عالميا، وقد أبرزت فيها مدى الدمار البالغ في غزة، ورصدت بوجوه السكان مدى ما يكابدونه من معاناة وسط الأنقاض والخراب والجوع المحيط.
ولا تغفل عن رصد فني وإنساني للهو واللعب وضحكات الأطفال المختلسة عنوة، من بين براثن موت محيط، وموت ينهش الأبدان والأرواح، ولكنها في النهاية ضحكات تصر بكبرياء على دحر عدو لا يتوانى عن الفتك بهم.

تُعرف المخرجة الإيرانية زبيدة فارسي بأفلامها الوثائقية المثيرة للجدال، واعتقالها وسجنها وإقامتها في المنفى الفرنسي منذ عقود، بسبب ما نقلته عن صراعات الداخل الإيراني في أفلام منها، “طهران بلا تصريح” (Tehran bedoune mojavez) و”وردة حمراء” (Red Rose) و”حورية البحر” (The Siren).
ومع أنها لا تعرف من اللغة العربية إلا كلمات قليلة، فإنها تتعمد تضمين بعض أشعار فاطمة حسونة العفوية البسيطة الصادقة، أو بعض غنائها المؤثر، فيبدو أنها كانت متعددة المواهب، بانتظار طموحها غير المحدود في رؤية العالم مصيرا مختلفا تماما، بخلاف ما انتهت إليه.
“تضعين روحك بين يديك وتمشين”.. أمل المثابرين
“لدي أمل بعيش الحياة التي أريدها، وعليّ الاستمرار في التوثيق، لأروي لأطفالي ما مررت به، وما نجوت منه. لا يهمّ إن قتلونا، سنضحك ونعيش. ففي كل ثانية تمشي فيها في الشارع، تضعين روحك بين يديك وتمشين، خوفا من القنص.. لقد اعتدنا على ذلك، لكننا لسنا كذلك، لأننا لا نستطيع الاعتياد على القتل أو القصف أو هذه المعاناة. عيني ما عادت تقدر توثّق، لكن قلبي يقدر. أهم ما في الأمر أنه ليس لدينا ما نخسره”.
تلك كلمات قليلة مفعمة بالأمل، مشعة بالطاقة، حاثة على الصمود، لم تكن إلا شيئا يسيرا مما تفوهت به فاطمة حسونة، ومما كانت عليه روحها المثابرة الصابرة المعبرة خير تعبير عن خلجات أهل غزة، مع كل ما مروا به من أهوال على مدى عقود وأجيال، لا ما يكابدونه خلال الحرب الوحشية الجارية فقط. أما الروح التي تشع بها تلك الكلمات من طاقة وحيوية وحب للحياة والمقاومة، فلم تكن تختلف كثيرا عندما كانت فاطمة تتحدث عن شهداء عائلتها، والمباني القريبة التي دُمرت، ونقص المياه والكهرباء، وخطر المجاعة.
ليس لدى فاطمة يأس، بل أمل في غد جديد جميل قادم، فنراها تبتسم وهي تعترف بأنها تحلم بأكل الدجاج مرة أخرى، أو تتمنى أن تذوق قطعة واحدة من الشوكولاتة، أو تتحدث عن الارتفاع الخرافي لثمن القهوة. ما من تلميح للشفقة على الذات، أو لنبرة انكسار أو ضجر أو تبرم في كلماتها وهي تصف الأحوال من حولها، حتى وإن كانت وفاة صديقة قريبة لها، أو عمة عثر على رأسها في أحد الشوارع من دون جثتها.

“يتفرجوا علينا مش لأننا متنا، بس لأنّنا حكينا بصدق”
مهما بدت قدرات قوة فاطمة حسونة، فإنها في النهاية مثل غيرها من البشر الطبيعيين، ينالها التعب والألم والخوف والحزن والتبرم. نرى ذلك باديا على وجهها وجسدها مع مرور الوقت، لا سيما في المكالمات الأخيرة، فنرصد مدى الوهن والإرهاق وقلة النوم، ولا سيما تأثير نقص الطعام والجوع. ناهيك عن زحف الكآبة، والموت المحاصر من كل ناحية، واللون الأسود الذي تلبسه. نرصد تدريجيا اختفاء ضحكاتها العريضة المشعة بالحيوية، التي كنا نراها في البداية، فتصبح مجرد ابتسامات تنتزعها عنوة. لكن المثير في الأمر أن روحها لم يبارحها الأمل والرغبة في عيش الحياة والسفر، والذهاب مثلا إلى مهرجان “كان” لمشاهدة عرض الفيلم، مع يقينها باستحالة مغادرة القطاع.
إنها تحولات تدريجية، أسهمت على نحو من الأنحاء في تمهيدنا وتهيئتنا إلى أن الدائرة أوشكت على الانغلاق، وأن انفصاما أبديا سيحدث لتلك الرابطة التي نشأت بين هاتين المرأتين اللتين لم تلتقيا قط، وإن كانت زبيدة فارسي قد وجدت في فاطمة روحها وربما شبابها. كما شعرت فاطمة أنها وجدت في زبيدة نافذتها على عالم حلمت به، وفرصة للمشاركة في فيلم يكون خير ترجمة لواقع أهل غزة، أو على حد قولها الصادق: “يمكن ييجي يوم ويتفرجوا علينا مش لأننا متنا، بس لأنّنا حكينا بصدق”.