محمد هاشم عبد السلام
17/5/2018
عنوان الفيلم “عن الآباء والأبناء“. لماذا أطلق عليه طلال هذا العنوان؟ ما المقصود بهذا العنوان الجامع؟
منذ اندلاع الأحداث الدامية في سوريا ولا تزال الأفلام التسجيلية تتدفق مُتناولة ما حدث ويحدث هناك. القليل من هذه الأفلام لامس القلب بالفعل وبقي في الذاكرة، والكثير منها طواه النسيان. ليس لعيب في الأفلام أو في طريقة تنفيذها أو منطقها وأحداثها، بل لفداحة ما حدث ويحدث يوميًا على أرض الواقع، إضافة إلى أن مرور الزمن أضفى عليها الكثير من العادية وأفقدها أهميتها الآنية. دون شك، كان المُخرج الذكي والمُرهف طلال ديركي على وعي بكل هذا. ولذلك أراد أن يُضيف إلى إنجازه السابق “العودة إلى حمص” إنجازًا جديدًا يُوغل به أكثر صوب قلوبنا وأرواحنا، ويحفر مُفرداته أكثر في ذكراتنا.
طموح مُخرج
بالطبع طموح طلال الفني -مثل أي طموح آخر لأيّ فنان- هو طموح مشروع، لكنّ هذا الطموح جعله بالفعل يُورد نفسه مورد التهلكة. فما أقدَمَ عليه في فيلمه الجديد “عن الآباء والأبناء” (2017) الفائز بجائزة “لجنة التحكيم الكبرى” من مهرجان “صاندانس” في مطلع هذا العام، وجائزة الجمهور في مهرجان “سالونيكي” هذا العام أيضًا؛ هو الجنون بعينه ولا شيء سواه. فقد ودَّعَ أُسرته -زوجته وأولاده- وذهب إلى مُقاطعة إدلب شمال سوريا مُلقيًا بحياته في خضمّ المجهول الذي لم يكن يعرف إن كان سيعود منه ثانية أم لا، وإن عاد، فهل سيكون سليمًا أم لا. فلو اكتشف أو شكّ أفراد جبهة النصرة ولو للحظة في حقيقة طلال لما تورَّعوا أبدًا عن تصفيته، وليس مُجرد اختطافه، هذا من ناحية.
أراد المُخرج الذكي والمُرهف طلال ديركي. أن يُضيف إلى إنجازه السابق “العودة إلى حمص” إنجازًا جديدًا يُوغل به أكثر صوب قلوبنا وأرواحنا.
من ناحية أخرى، معيشته بينهم بعد إقناعهم بأنه مُصوّر مُحِب لهم ومُعتنق لأفكارهم ومُؤيد لها، لقرابة السنة أو أكثر، ومُصاحبته لأبي أسامة المُقاتل الشرس في صفوف الجبهة ومسؤول التفتيش عن الألغام والعبوات الناسفة؛ كان من المُمكن ببساطة، في أي لحظة أثناء التصوير، أن يُودي بحياته، أو على الأقل يُفقده أيّ طرف من أطرافه. ففي أكثر من لقطة نلمس مدى قُرب الكاميرا من الألغام الأرضية التي يتم البحث عنها، فاللقطات غير مُصوَّرة بعدسات زوم على الإطلاق. ليس هناك أيّ قدر من الأمان أو التأمين، سواء له أو لمدير التصوير “قحطان حسون”. الأمر نفسه ندركه عندما نجده يجلس مُتمترسًا بجوار أبي أسامة في أحد الخنادق، بينما يُصَوِّب الأخير بُندقيته ليقنص أحدهم، في حين ينتاب طلال الهلع والرعب.
والمُثير فوق كل هذا أن ما هو مُتوقع قد وقع. ففي أحد الأيام، ورغم استخدام أحدث أجهزة الاستشعار والكشف عن الألغام، ورغم تَمَرُّسه من قبل حتى من دون استخدام الجهاز، وقع سواء في وجود الكاميرا أو غيابها، فنحن لا نرى المشهد في الفيلم، فأبو أسامة فقد ساقه اليسرى أثناء عملية من عملياته المُعتادة في البحث عن الألغام وتفكيكها. والأدهى أنه بعد الإصابة وما نراه ونُعايشه معه من آلام مُبرحة، لا يَتَوَرَّع داخل منزله عن تفكيك المزيد من العُبوات لاستخراج المواد المُتفجرة من داخلها، والكاميرا منصوبة على بُعد سنتيمترات منه.
بعد استيعاب تجربة الفيلم الصادمة والمُؤلمة على أكثر من مُستوى، استوقفني أكثر من أي شيء آخر عنوان الفيلم “عن الآباء والأبناء”. لماذا أطلق عليه طلال هذا العنوان؟ ما المقصود بهذا العنوان الجامع؟ إلى أي شيء كان يهدف من وراء تلك التسمية؟ فهناك أبو أسامة وأولاده الثمانية. وقد تمحور الفيلم -على وجه التحديد- حول الصبيين أسامة وأيمن. فلو افترضنا أنهما ما قصده العنوان بالأبناء، وربما معهما الأشقاء أيضا، فعن أي آباء تحدث طلال أو أشار في عنوانه؟
للإجابة على هذا السؤال المُلِحّ، يجد المرء نفسه مُضطرًا لقراءة الفيلم على نحو لن نقول إنه يُحمِّله أكثر مما يحتمل، لكن لِنَقل قراءة تغوص إلى الطبقة التحتية من الفيلم، تلك الكامنة تحت السطح. والمُثير أنه بعد الوصول إليها وقراءتها واستيعابها يُمكننا الخروج من الفيلم بالكثير من المعاني المُغايرة لتلك التي قد نستنتِجُها من القراءة أو عند المُشاهَدة الأولى العَابِرة. وبالطبع نكتشف أن تلك القراءة المُعمَّقة لما دون السطح تُتيح لنا -ولو على نحو جُزئي- تخمين الإجابة عن سبب كهذا؛ إطلاق طلال هذا الاسم على فيلمه، ومن قَصَدَ بالآباء والأبناء.
يفرد طلال لأبي أسامة الإنسان/الأب مساحة أكبر أو توازي بعض الشيء المساحة التي فردها لأفكاره ودوره على جبهة القتال.
الأب
الأب الذي يُطلق عليه طوال الفيلم هذا الوصف هو أبو أسامة، وهو مِثله مثل أي شخصية أصولية إسلامية تعتنق الفكر المُتطرف وتحمل السلاح دفاعًا عن تلك الأفكار، وعما يعتقدون أنه من صميم وصحيح العقيدة. إنه يسخر من المُسلمين المُعتدلين الذين يراهم مُرتمين في حضن الغرب -وأميركا على وجه الخصوص- من أجل تحقيق مآرب وامتيازات خاصة بهم، وإنهم حقيقة لا يمثلون الإسلام ولا صحيحه ولا المُسلمين، وإن أبا أسامة وأمثاله هم من يُمثله قولا وفعلا. وهو يُجيب على سؤال طلال بألم، فهو يأسف بالفعل لدمار وخراب بلاده، لكن ماذا عليه أن يفعل؟ عليه أن يُواصل لتحريرها من أيدي هؤلاء الطغاة، ولإقامة دولة الخلافة والعدل. ويفخر ومن معه، بتطهير القرية أو البلدة التي هم فيها، والتي يقول أحدهم إنها كانت تحتضن الإسلام الصُوفي والمُتصوفة، لكن بحمد الله وعونه قاموا بتطهيرها منهم.
كما يسخر أيضًا في استجهان من تصوير فتاة في الثانية من عمرها صورة فوتوغرافية دون أن تضع الحجاب. رجل يُردد أغاني الجهاد والاستشهاد دائمًا، ويحلم أبدًا بإقامة دولة العدل والإنصاف، دولة الخلافة الإسلامية التي تقضي على الكفار، ويتنبأ بيقين قاطع بأن الحرب العالمية الثالثة قادمة لا محالة. رجل يتمنى الزواج بأكثر من امرأة، ويحلم بتوأم في كل مرة. وبالفعل يتزوج بالثانية أثناء تصوير الفيلم ويُنجب منها.
من ناحية أخرى، أبو أسامة يحتضن أولاده، ويسرد على مسامعهم قصص الحرب والبطولات والنضال والقتال التي تُشكل تدريجيًا كل ما يملكه الأطفال من عالم يحلمون به، ويُكوِّنُ خيالهم ويصوغ أفكارهم. يفرد طلال لأبي أسامة الإنسان/الأب مساحة أكبر أو توازي بعض الشيء المساحة التي فردها لأفكاره ودوره على جبهة القتال.
لكن رغم هذا الجزء الكبير من الفيلم لم يقع طلال في فخ أنسنة بطله ولا التعاطف معه أو الغرام بشخصيته، ولا حتى تقديم الجهاد بوجه آخر يستدر التعاطف أو يخلق أي نوع من أنواع الألفة أو يترك أي مساحة للحب أو الشفقة. إنها مُحاولة اقتراب إنسانية بالقطع تنقلنا إلى داخل الشخصية التي هي بشرية في النهاية، رغم سلوكها وفكرها العقيم المُتطرف. نمط من البشر بات -لأسباب عديدة- يحمل بين جنباته تلك الأفكار المُتطرفة التي أطاحت بعقله وعقول غيره. لكن هذا لا ينفي عنها في شق آخر آدمية وإنسانية شخص يعشق أولاده حدّ الولع، فهو شديد الرقة وبالغ العطف والحنان عليهم، لكن على طريقته الشخصية أيضًا في فهمه لطبيعة تلك العلاقة.
وُلِدَ أسامة يوم الحادي عشر من سبتمبر 2007، أي بعد ست سنوات من الاعتداء الإرهابي على برجي التجارة في نيويورك. ولذلك أطلق عليه اسم أسامة تيمنًا بأسامة بن لادن.
الأبناء
وُلِدَ أسامة يوم الحادي عشر من سبتمبر 2007، أي بعد ست سنوات من الاعتداء الإرهابي على برجي التجارة في نيويورك. ولذلك أطلق عليه اسم أسامة تيمنًا بأسامة بن لادن. ونفس الأمر فيما يتعلق باسم شقيقه الآخر أيمن الذي أطلق عليه هذا الاسم نظرا لحبّ والده الشديد للدكتور أيمن الظواهري. ولأبي أسامة ثمانية أبناء، يَعِدَهم جميعًا -حسب قوله- ليكونوا من جنود هذه الحرب المُقدسة. نجهل مصير الأشقاء الآخرين حتى نهاية الفيلم. يتمحور الفيلم كما ذكرنا حول أسامة وأيمن اللذين تَحَدَّدَ مصيرهما منذ ولادتهما وتسميتهما. إنه مصير من البؤس والقمع والكبت والقتل أو السجن، على أقل تقدير.
ذلك لأن الأمر هنا ليس قاصرًا على كون الأطفال يلعبون وسط الخراب حيث الدبابات المُحترقة والمنازل المقصوفة والدمار المُحيط من جميع الجهات. يقطعون رقبة أحد العصافير التي أمسكوا بها ويزفون الخبر لوالدهم مُبتهجين. يلقون الحجارة على الفتيات بالمدرسة أو يتشاجرون فيما بينهم. يصنعون منطادًا من كيس بلاستيكي وبداخله شعلة من النار داخل المنزل، وهو ما قد يُؤدي لكارثة. والأدهى من ذلك صُنعهم لقنبلة، صحيح أنها بدائية، لكنها في النهاية قنبلة مُكونة من حامض ملح الليمون أو الستريك ورمال حمراء. يُحاول الأطفال معها أكثر من مرة كي تنفجر، ثم يتقافزون فوقها، في النهاية تنفجر وتُطلق صوتًا مُدويًا. وربما لو كان أحدهم بالقرب منها وقت انفجارها لأصابته إصابة بالغة.
مع الأسف، كل هذا رغم فداحته لا يكاد يُذكر أبدًا مُقارنة بانتقال أسامة إلى مُعسكر التدريب من أجل التحاقه الوشيك بصفوف الجهاد والجهاديين على خط النار. داخل ذلك المُعسكر ينقل لنا طلال مَشاهِد تقشعرّ لها الأبدان حقًا، ولم يكن المرء لِيُصدقها لولا رؤيتها بعينيه على الشاشة. مَشاهِد تجعل كل ما حدث طوال الفيلم وما شاهدناه من دمار وخراب وبتر ساق وبتر في العقول والأرواح والأفكار والسلوك، لا يكاد يُقارن بها. فأسامة، مع أقرانه من نفس السن تقريبًا، يتلقون تدريبات لستة أشهر، لا تقوى عليها أعتى فرق الصاعقة. القفز وسط النيران وتسلّق المُرتفعات وسوى ذلك من أشكال التدريب الخطير.
الأدهى، الاستلقاء على الأرض وإطلاق الرصاص الحي بجوار رؤوسهم مُباشرة أو بين أقدامهم وهم في طوابير التدريب. أيّ تربية وبيئة ينشأ فيها هؤلاء؟ وأي مُستقبل ومصير ينتظرهم؟ في تلك الأثناء، يُجري المُخرج مُقارنة سريعة دالة وعميقة بين شخصيتي أسامة وأيمن المُتناقضتين واللتين ستمضي كل واحدة منهما إلى سبيلها في النهاية. إلى أي سبيل؟ لا أحد يعرف يقينًا. ما نعلمه أنّ أسامة تقرر إلحاقه -بعدما أثبت رباطة جأشه في مُعسكرات التدريب رغم عدم بلوغه- بصفوف المُجاهدين. وأيمن الذي يدرس في المعهد الديني وبعدما ثبت في المعسكر ضعفه وشروده وعدم لياقته للقتال؛ يقوم والده رغم ذلك بتدريبه على إطلاق النار وتجهيزه لتحمل مسؤولية الأسرة.
ينتفل أسامة إلى مُعسكر التدريب من أجل التحاقه الوشيك بصفوف الجهاد والجهاديين على خط النار. داخل ذلك المُعسكر مَشاهِد تقشعرّ لها الأبدان حقًا.
عن المغزى
في فيلمه، برع طلال في ترك الصورة تتحدث من تلقاء نفسها، لتشرح ما يحدث دون الحاجة لتدخله المُستمر، سواء بالأسئلة المُباشرة أو التعليق الصوتي إلاّ فيما ندر. كما برع أكثر في خلق هذا التوازي بين هذين العالمين، عالم الأب وعالم الأبناء. ومن هذا العالم الضيق في إدلب سحب طلال فيلمه وموضوعه إلى منطقة أُخرى أرحب وأكثرعُمقًا وإنسانية، مُتعلقة بكل ما له علاقة بالقمع وطريقة التربية، وإلى أي مدى يكون الأبناء ضحايا للآباء. عن العلاقات الأُسرية، علاقة الزوج بزوجته، لا وجود للنساء أو البنات قط داخل أو خارج المنزل ولا نعرف عنهم أي شيء. طلال هنا ينتقد بشكل أو بآخر المُؤسسة التربوية، ينتقد سُلطويتها القمعية والاستبدادية والتحكمية في أيّ مكان وزمان، ويُبيِّن كيف أنّ الآباء هم بشكل مُباشر من يُحددون مصير الأبناء في أي مكان وزمان. ولهذا برأينا، كان اختيار عنوان الفيلم، أنه عن علاقة الآباء عامة بالأبناء عامة، تلك المُؤسسة التي قد تُفرّخ للإنسانية أسمى أو أقسى البشر.