محمد هاشم عبد السلام

 

2/5/2017

 

بعد ثمانية عشر عامًا من التوقف التام عن ممارسة الإخراج السينمائي، والاكتفاء بالمسلسلات التليفزيونية وبعض المقاطع التسجيلية، عادت المخرجة المجرّية الكبيرة “إلديكو إنيدي”، وهي تستحق هذا الوصف عن جدارة، لتُقدَّم رائعتها الجديدة “عن الجسد والروح” في مسابقة مهرجان برلين هذا العام. خرجت إنيدي من السابق، وقد فاز فيلمها بأكثر من جائزة من جوائز المهرجان أهمها جائزتيّ، الدب الذهبي ولجنة التحكيم. الأمر المثير والنادر فيما يتعلق بفيلم “عن الجسد والروح”، ذلك الإجماع النقدي الذي ناله الفيلم كتحفة المهرجان هذا العام، ورضا الغالبية العظمى عن فوزه بجائزة المهرجان الكبرى.

تنتمي إلديكو إنيدي، المخرجة المخضرمة، مواليد عام 1955، إلى الجيل الثاني من حيث الأهمية في السينما المجرية، وأعني به جيل بيلا تار، وهو الجيل الأبرز بعد جيل “ميكلوش يانتشو” و”إشتيفان زابو”. وإنيدي ليست جديدة على المهرجانات ولا الجوائز، فقد سبق لها الاشتراك في أبرز المهرجانات الدولية، وفاز فيلمها “قرني العشرين” (1989)، بكاميرا “كان” الذهبية. وما قدّمته المخرجة من أفلام، على قلته، يُعتبر من علامات السينما الروائية في بلدها. وبالعودة إلى الإعجاب والإجماع النقدي أو شبه الإجماع فيما يتعلق بفيلم “عن الجسد والروح”، نحاول هنا أن نقترب من السر الكامن وراء الإعجاب البالغ بهذا الفيلم، وإن كان يستحقه بالفعل أم لا؟

لو طبقنا العديد من المعايير النقدية، الصارمة، فيما يتعلق بالفيلم، ولو فتشنا عن الأوجه التقنية التي جعلته ينضح بهذا القدر البالغ من الجماليات الفنية، فسنجد الكثير والكثير مما يمكننا التحدث عنه فيما يتعلق بهذا الفيلم المُتقن الصنع من كافة الجوانب، بداية من السيناريو، مرورًا بالتمثيل والتصوير والموسيقى والملابس والألوان وتصميم المناظر، والمونتاج وهو هنا يُدَرَّس بالفعل، وليس انتهاء بما يحمله الفيلم من مضمون إنساني شديد العمق بالإضافة إلى – وعلى عكس السائد – السؤال الوحيد الذي يطرحه الفيلم، والذي من أجله أقدمت إلديكو على إخراج “عن الجسد والروح”. هذا السؤال سنكشف عنه لاحقًا بعد التطرق سريعًا لجماليات وفنيات هذا الفيلم.

 

جماليات التسجيلي والروائي

لم نبالغ قط عندما وصفنا إلديكو بالمخرجة الكبيرة، فثمة علامات تجعلك توقن على الفور أنك إزاء مخرج حِرَفي مُلم بمهنته من الألف إلى الياء، هضم تاريخها وحفظه عن ظهر قلب، حتى وإن لم يمارس المهنة لفترة زمنية طويلة. وعندما تجتمع الحِرَفية مع وجهة النظر المتميزة، والأسلوب الخاص المتفرد، والشطح الفني المفتوح على الآفاق الفنية الرحبة للسينما بمعناها الشامل، فمن الصعب عندئذ أن تغفل العين عن تلك الموهبة، ولا يكون من قبيل المجاملة بالمرة وصف صاحبها أو صاحبتها بالكبير من حيث الموهبة والإبداع.

ومن الأمثلة الصغيرة التي توضح مدى فنية وحرفية أي مخرج، في اعتقادي، هي كيفية تنفيذه لمشاهد الحلم، وتلك برأينا، من أصعب المشاهد التي يمكن لمخرج التصدي لها، وتقديمها بحرفية عالية وصدق فني وجِدّة تُقنِع المُشاهد بأنه إزاء حلم أو رأى مشهد حلم، بعدما ينجلي المشهد، ويدرك حقيقة ما شاهده. والمثير فيما يتعلق بفيلم “عن الجسد والروح”، وفيما يتعلق أيضًا بجرأة إلديكو، أنه قائم بالأساس على مشاهد حلمية، بالأحرى مشهد واحد بتنويعات طفيفة، لو أسقطتها من الفيلم أو عجزت عن استيعابها والتعامل معها، ضاع منك معنى الفيلم، وفسد استمتاعك به. ومن ثم، فإن التفاعل مع الفيلم، على امتداد زمن عرضه، ساعتين تقريبًا، يتغير ويتحول ويتبدل، فالفيلم لا يترك المُشاهد في حالة من التلقي السلبي أو الراحة والسكون لفترات طويلة، فعقله ومشاعره في تفاعل دائم مع ما يراه.

والمثير أكثر وأكثر فيما يتعلق بجرأة إلديكو، التي يمكننا وصفها بالتبجح الفني، بالطبع بالمعنى الإيجابي للكلمة، أن تختار القالب التسجيلي البحت لإخراج مشاهد الحلم، التي هي في الأصل قوام فيلم روائي بالأساس. والأدهى من ذلك أن تفتتح فيلمها بتلك المشاهد، وتترك المُشاهد في حيرة من أمره تجاهها، وإزاء تفسيرها، وسبب وجودها، الذي لن ينجلي تمامًا حتى وصول الفيلم إلى منتصفه تقريبًا. والأكثر من هذا كله، أن إلديكو لم تكتفِ بتلك المشاهد التسجيلية الحلمية فحسب، بل ووضعت بالفيلم – في سياق مُلتحم مع بنيته الروائية، ونابع من صميم قصته وحيث تدور أحداثه – مشاهد أخرى شبه تسجيلية. هل ثمة ما رغبت إلديكو في قوله أو إيصاله عبر توظيفها التقني هذا لأقصى جماليات الفيلم التسجيلي الصرف، وأروع جماليات الفيلم الروائي البحت؟ هل كانت تهدف للقول بأن الحواجز قد زالت بين الأجناس أو هي في سبيلها للزوال قريبًا؟ أو لا هذا ولا ذاك، وأن هذا صنيعي فانظروا ماذا تقولون؟ أيًا كان، وبصرف النظر عمّا دار في خلدها، فالنتيجة جاءت مُدهشة بالقطع، وغير مسبوقة بكل تأكيد ودون أدنى مُجاملة.

 

افتتاحية الفيلم

تُعتبر افتتاحية الفيلم أو بدايته شعرية نوعًا ما، وربما للوهلة الأولى على قدر من الغرائبية، لكنها بداية بالغة القوة والجمال. منظر ثلجي ناصح البياض، يفيض بالجمال المشهدي الخلاب، والذي أسهم في قوته دون شك تصويره في الشتاء، حيث البرودة والعزلة وافتقاد الدفء. وسط هذا المشهد البديع نرى زوجين من الأيل، بلونيهما البني الداكن، على خلفية الثلج الناصعة البياض، مع جذوع وأغصان الأشجار القاتمة، وانسياب جدول ما، وأحيانًا سماع خرير مكتوم. كل تلك المفردات صنعت سيمفونية لونية صوتية رائعة، تكاد من فرط روعتها وصفائها وسكونها أن تشعر معها، دون تكلف أو عناء، بصوت الصمت وبصدى السكون، إن جاز التعبير. لاحقًا فحسب ندرك أنهما ذكر وأنثى، ربما شردا من قطيع ما، إذ ليس بالمحيط سواهما، لا يبرحان المكان تقريبًا وكأنهما قد انفصلا عن كل ما حولهما وارتضيا بذاك المكان أبدية لهما. يحاولان تدريجيًا الاقتراب أحدهما من الآخر كي يحققا الاقتران المنشود، في النهاية. وتدريجيًا، وعوضًا عن الاستنكار أو الحيرة أو التساؤل عن الدافع وراء افتتاح الفيلم بهذا المشهد، وتتالي تلك المشاهد على فترات متفاوتة من زمن الفيلم، تكتسب تلك المشاهد، لا سيما مع انجلاء علتها، بُعدًا وعمقًا لم يكن بمقدورنا تصوره.

في المشاهد اللاحقة المماثلة على امتداد الفيلم، تتنوع اللقطات من بعيدة إلى متوسطة، وتنتهي إلى لقطات مُقربة على زوجي الأيل، تغوص بنا أكثر وتقربنا من الوجه والعينين، وتنقل لنا التناغم والانسجام، ولاحقًا الاندماج الرقيق، عبر التلامس الرهيف بين الحيوانين، اللذين ينظران، بل يحدقان كثيرًا في عدسة الكاميرا وكأنهما يدركان بالفعل أنهما قيد التصوير أو أن من يحلم بهما يراهما أو أنهما تجسيدًا للحالمين بهما، وهما بدورهما على وعيّ بهذا التجسُّد، ولذا تحدق عيونهما صوب الغريب الذي يترصدهما أو نحو المجهول بكل ما يكتنفه من غموض وما يخبئه المستقبل في طياته.

في البداية ندرك تمامًا أنهما محض مجرد زوجي أيل في غابة، لكن تدريجيًا ومع الإحالة إلى بطلي الفيلم، والربط بين شخصيتهما وعلاقتهما، نلمس عن قرب، مع إطلاق العنان لخيالنا، بفضل الفيلم ومخرجته والفكرة بالطبع، أنهما ليسا كذلك، بل بشر تجسدّا في هيئة مخلوقين رقيقين أو أنهما كانا من الممكن أن يكونا على تلك الهيئة لو لم يُخلقا كبشر أو أن روحيهما بمثل خفة وجمال ورشاقة حيوان الأيل. ومن هنا، كان هذا الاختيار البديع لذلك الحيوان على وجه التحديد. ومن ثم، فإن الحلم هنا يحيلنا إلى الباطن الحقيقي لبطليّ الفيلم وروحيهما الحقيقة، وليسا ما يبديانه أو يظهرانه للعيان عبر العلاقات الباردة الجامدة والمُتحفظة، التي تصل لدرجة الفظاظة والنفور من البشر.

ما الجديد فيما يتعلق بسرد قصة حياة فردين وحيدين متحفظين ومنعزلين ومُحطمّين يخشيان العالم من حولهما ويفتقدان لكل اتصال مع المحيط ويخشيان البشر ويعانيان من بعض الوساوس التي تصل حد المرض، ثم لقاءهما بمحض الصدفة ووقوعهما في غرام أحدهما الآخر؟ فيما يتعلق بهذا الإطار التبسيطي للقصة، ربما لا شيء على الإطلاق، وقد سبق تقديم العديد من هذه الشخصيات، والكثير من القصص التي تدور في نفس الإطار، وعلى نحو متطابق أيضًا. تلك العوالم الغامضة أو الشخصيات القادمة من تلك العوالم وقصص الحب التي تنشأ بعد صعوبة بالغة في حياة تلك الشخصيات أو بين بعضها البعض ليس بالجديد على الفن بصفة عامة ولا السينما بصفة خاصة. وليس ثمة شك في أن الفيصل دائمًا هو طريقة الطرح والتقديم، وهذا هو ما جعل قصة “عن الجسد والروح”، تبدو لنا برغم عاديتها، غير مطروقة بالمرة ولا مألوفة لنا، وهذا النجاح يُحسب دون شك للمخرجة كاتبة السيناريو، صاحبة النظرة الثاقبة، والجماليات المنتبهة لأدق التفاصيل، والراصدة لأدنى الانفعالات، مع البعد عن النمطية والمبالغة والاستطراد، والاكتفاء بالسرد عن طريق الصورة بالأساس، وبمساعدة الأداء الرصين والمنضبط، والصادق، قبل كل شيء، من جانب بطليّ الفيلم.

“ماريا” (ألكسندرا بوربيلي) جميلة بالفعل، وإن بدا جمالها شاحبًا جليديًا، إنسانة مُنفرّة، وربما عدائية، إنها مُدَمرة نفسيًا، تخشى اقتراب البشر منها أو حتى التحدث معها، وهي المنفصلة بدورها عن العالم، وعن التقنية الحديثة، مصابة بوساوس تنضح على شخصيتها والمحيط من حولها، لكنها ولا شك على قدر كبير من البراءة والخجل رغم كل شيء. تصل ذات يوم إلى أحد المسالخ ببودابشت كمُراقبة للجودة، بديلة عن المُراقبة الأصلية التي تضع مولودها بإحدى المستشفيات. وقد كان من الطبيعي أن تلتقي ماريا بالمدير المالي والمسئول العام عن المسلخ “إندر” (جيزا مورشاني)، الذي يُعاني من شلل في ذراعه الأيسر، والقابع طوال الوقت منذ الصباح، وأحيانًا حتى فترات متأخرة من المساء، في مكتبه، يُراقب ما يجري في المصنع، ويرصده بقدر من التلصُّص، أكثر منه متابعته لوظيفته، والتلصص هنا ليس غرضًا في حد ذاته بقدر ما هو تزجية الوقت، حيث نلمس يومًا تلو الآخر مدى الرتابة التي تضرب جنبات حياته سواء في العمل أو حتى بشقته، حيث يعيش وحيدًا منقطعًا من الأهل والأصدقاء، تمامًا مثل ماريا.

وعلى امتداد النصف الأول من الفيلم والتمهيد للأحداث أو بالأحرى الحدث الرئيسي وهو قصة الحب بينهما، وبناء الشخصيات وخلق المواقف إلى آخره، تصعقنا إلديكو من حين لآخر، عبر استخدامها البارع للمونتاج الحاد غير السلس والصادم، بمشاهد الحلم الخلابة حيث الصفاء والسكون والبياض الثلجي والعلاقة الرقيقة بين زوجي الأيل ثم فجأة إلى المسلخ ومشاهدة الدماء الحمراء وسلخ العجول وتقطيع الأوصال، وعليه، فقد كان اختيار المسلخ اختيارًا عبقريًا من جانب المُخرجة، حيث انتفاء أي شاعرية، ناهيك بالتصوير التسجيلي البحت لأغلب مشاهد المسلخ وعمليات الذبح والتقطيع والسلخ، كما ذكرنا من قبل، ومن ثم فقد تحقق الأثر المطلوب على نحو يفوق التصور عبر توظيف المونتاج على النحو الصحيح، وضمن صميم قصة الفيلم، والبناء غير المفتعل للأحداث.