محمد هاشم عبد السلام
إنجاز نسخة جديدة من فيلم قديم (ريمايك)، وتنفيذ أجزاء لاحقة على الأول من فيلمٍ ناجح، أمرٌ انتشر بكثافة في صناعة السينما. يعتبر هذا من بين الرهانات غير المفهومة، والمخاطرة غير المحسوبة. فالنتيجة غالباً هي ذاتها: إخفاق متكرّر. مع هذا، يُصرّ أرباب الصناعة على المقامرة باستغلال نجاح القديم واستثماره واحتلابه لتحقيق أقصى استفادة مادية ممكنة، خاصة لو كانت إيرادات الأول طائلة. مثل فيلم “الجوكر“ (2019) لتود فيليبس الذي تجاوزت إيراداته المليار دولار أميركي بقليل.
المثير جدًا فيما يتعلق بالنسخة الأولى من “الجوكر” أنها لم تعجب الكثير من النقّادا، وبصفة خاصة القائمين على صناعته وإنتاجه. سرت أقاويل كثيرة عنه، لكن تحت ضغط النجاح الجماهيري الهائل وغير المتوقع، تحوّل إلى فيلمٍ نخبوي وفلسفي وسياسي وتنبؤي بامتياز، فحصل تراجعٌ. ثمّ خُطِّط لجزءٍ ثان، رغم تأكيد فيليبس أنّه لن ينجز تتمة له، قبل أنْ ينكص تأكيده لشدّة الضغوط عليه، متأمّلاً تحقيق نجاح مماثل أو إيرادات قريبة على الأقل.
إنجاز فيليبس انقلابٌ دمّر رسوخ الأول وصلابته. فالجديد دراما رومانسية غنائية ترفيهية لطيفة، من دون عمق. بهذا، من المؤكد أن الأول سيَلفظ، لفرط صدقه وعمقه وأصالته، تتمته مع الوقت، ويجعلها منسية. ما سيؤكّد على ويُرسّخ قاعدة إخفاق الأجزاء اللاحقة على الأول لفيلم ناجح.
افتتاحية “الجوكر: على حافة الجنون” مُشوّقة ومثيرة وواعدة. دقائق مُمتعة ومبهجة ومكثّفة، من رسوم متحركة ساخرة، تلخص الجزء الأول حتى دخول آرثر فليك (خواكين فينيكس) السجن. ثم ننتقل مباشرة إلى مؤسّسة “أركام”، حيث نشاهد آرثر النحيل الضامر. المقيم في مؤسّسة للاضطرابات العقلية وجريات حياته اليومية. ذات يوم، بينما كان يمر بصفّ الغناء، يلمح لي كوين (ليدي جاجا) عبر الحجرة. واضحٌ أنّ لديه مُعجبين كثر، ليس في الخارج فحسب بل وفي الداخل أيضًا.
العالم يعرف الجوكر، ويُحبّه نجماً وشخصيةً مُلهمة، رغم كراهية البعض له، مثل جاكي (براندن جليسون)، الحارس السادي الكاره له بلا سبب، والذي يسأله يومياً عن نكتة جديدة. لكنْ، واضحٌ أنّ شخصاً واحداً على الأقلّ في “أركام” يعشقه بشدّة. ورغم أنّ عديدين يعتقدون أنّه مجنونٌ، لكنّ نظرة لي كوين إليه مغايرة تماماً، وتدريجيًا، ينخرطان في علاقة غرامية.
يُحاكَم آرثر بتهمة قتله المتعمّد خمسة أشخاص. لا أحد يجادل في هذا، ولا آرثر نفسه. تبدأ المحاكمة. الوقائع تتناول قضية واحدة: هل يُعلَن أنّه مجنونٌ، الأمر الذي سيؤدي لإنقاذه من عقوبة الإعدام؟ تجادل محاميته ماريان (كاثرين كينر) بأنّ آرثر لم يرتكب الجرائم فعلاً، لأنّه منقسم الشخصية، ومُختلّ نفسياً بسبب تربيته السيئة، وأنّه يستحق العلاج في المستشفى لانعدام مسؤوليته عن أفعاله. المدعي العام لمدينة “جوثام” ينقض هذا: إنّه ليس شخصين، آرثر والجوكر، وهو يُسَأل عن أفعاله، ومُدان يجب إعدامه.
إجمالا، لا يُمكن إنكار أنّ “الجوكر” الجديد ـ المعروض في مسابقة الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ”مهرجان فينيسيا السينمائي” (لم ينل جائزة واحدة، علماً أنّ للأول جوائز عدّة)، والذي تبدأ عروضه التجارية الأميركية في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول المقبل ـ ينطوي على فكرة جديدة وجريئة وجذّابة، تعمل في السياق الأصلي للحبكة الرئيسية للفيلم الأول. لكنْ، غابت عنه جرأة التقديم وتطرّف المعالجة وحدّة التنفيذ، إذْ لم تكن في الثاني بالمستوى نفسه للأول، ولا تتمتّع بحِرفية التمسّك بالفكرة وذكائها ومهارتها وتطويرها، والوصول إلى مداها. ناهيك عن إفراغ الشخصية من مقوّمات قوّتها وسحرها وعبقريتها السينمائية السابقة، والأسوأ تدجينها في استعراضات غير مناسبة لها، وفي غير محلها، وليست جديدة ومُبتكرة وجذّابة.
كان على تود فيليبس (كتب السيناريو مع سكوت سيلفر) الإعلاء كثيراً من سقف طموحاتهما، لتجاوز تقديمهما الشخصية الأسطورية، الجوكر، مهرّجاً بائساً، بُتِرَت أجنحته، وظهر دميةً تغنّي وترقص وتعيش في خيالها. لذا، تخبّط الفيلم للحصول على هوية واضحة عمّا يريد أن يكونه آرثر، الذي يُدرك أنّ ادّعاء الجنون فرصته الوحيدة، لكنّه يتوق أيضاً إلى احتضان مصير الجوكر مجدّداً. أي شخصية المهرّج المخيف والمجنون، التي وضعته في مصاف المشاهير والأبطال، وأوقعت هارلي في حبّه. لكنّ الانقسام المطروح لم يمضِ صوب المُفارق وغير المتوقّع واللامعقول، فمسخ الشخصيتين، آرثر والجوكر.
لم يُصوَّر آرثر بطلاً مأساوياً أو شريراً كاملاً. لم يعتنق كلّياً شخصيته كجوكر، ولم يلفظها بالمرّة. إنّه رجل في حالة عدم يقين مستمرّ، تترك المشاهدين غير متأكّدين مما هو عليه حقاً، أو مدى انكساره أو صلابته.
اللافت للانتباه فنياً أنّ الفقرات الغنائية، غير المُشبِعَة وغير المُمتعة وغير المُعمِّقة للموضوع والشخصيات والأداء ولعلاقة الحبيبين، فرضها وجود ليدي جاجا فرضًا، ودفع خواكين فينيكس إلى مجاراتها غنائياً، بصوته الغليظ الأجشّ، رغم جهده المُقنع في الاستعراض والرقص، وحتى الرقص النقري المنفرد. لكنْ، ضاعت ضحكة الجوكر، المُجلجلة والساخرة والعصبيّة، وغير المسبوقة وغير المعهودة، وتاهت وسط خليطٍ مصنوع أساساً لتقديم جاجا، والاستفادة من إمكانياتها. لكنّ ثقل حضورها التمثيلي، رغم موهبتها الصوتية، وفشل الكيمياء الرومانسية بينها وبين فينيكس، وحَبْك قصّة حبهما على نحو مُقنع، أفسد الكثير.
رغم تقديمه فيلم “الجوكر: على حافة الجنون” كدراما غنائية استعراضية، بدا تود فيليبس غير قادر أو غير مُهتمّ بتخيّل فقرات موسيقية غنائية راقصة وتصويرها وإخراجها، تحمل تجديداً وابتكاراً وبراعة وجماليات، وذات فنّيات بصرية تضاهي مثلاً ما أنجزه جاك أوديار في فيلمه الاستعراضي الغنائي “إيميليا بيريز” (راجع المقالة المنشورة عنه في “العربي الجديد”، 5 أغسطس/آب 2024).