أجرتها: آنا مزاريللي

ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

 

آنا: في قائمتك للأفلام العشرة الأوائل الخاصة بالمجلة، علقت قائلاً إنك اخترت الأفلام الشعبية، لأن تلك هي الثقافة التي تنتمي إليها كمخرج.

فيلليني: السينما لا تخص فقط المخرجين العظام؛ لديها المشاركون الآخرون وهم على قدم المساواة من رموزها أيضًا. لا يمكنني تجنب هذا الاتجاه لكن أفكر في تلك الأفلام التي من سنوات العشرينات إلى الآن التي كان حجر الزاوية فيها أو رموزها الكبيرة ممثلة أو ممثل  – في تلك الأيام، كانت السينما بالنسبة لي وجوه ممثلين. كان لجاذبية “جاربو” شيء من هيبة مجالس القضاء: تأنيب أو تحذير، اختفاء وراء قناع، نظرة محدقة ؛ وقفة موت كهنوتية، كما لو كان هناك  حكم بعقوبة يجري النطق به. في إيطاليا الكنيسة الكاثوليكية، كان مستحيلاً –  عدم الافتتان بالقاضي، علاوة على أن القاضي امرأة، أحد أشكال طيف “أثينا”. بذلك كانت هذه المجموعة من الوجوه المتعايشة التي مثلت السينما وكانت رموزاً لها، متضمنة “جاربو”، ثم “شابلن”، أو الاثنين معًا – “جاربو” الساحرة، كاهنة معبد “دلفي بِيثيا”، و”شارلي” المتشرد، المتمرد الشاب، كل قاما معاً بتقديم أكثر السيكولوجيات أو الرغبات المتعارضة. ثم كان هناك “ستان” و “أولي” – كم كنا ممتنين لذلك الضحك السعيد بلا غرض وراءه، لا شيء من الابتزاز العاطفي أو الأيديولوجي الخاص بـ “شابلن”. وباختصار، كان هناك “الاخوان ماركس”. في ليلة من الليالي نزلت إلى المطبخ لإحضار كوب ماء وكان التليفزيون مفتوحًا، وكان يعرضون “حساء البطة”. وجدت نفسي أجلس هناك بمفردي، في الثانية والنصف صباحًا، أجفف دموع الضحكات عن وجهي بكم الروب الذي كنت أرتديه. أي مهرجين رائعين موهوبين إلهيًا، أي إيقاع، أي حوار سريع الطلقات، رشاقة البالية: ثلاثة مهرجين رائعين أدخلوا في لعبة الآخرين. الخلاصة. الخلاصة إذن: “جاربو”، و”شابلن” إلى جانبها، “ستان” و”أولي” على الجانب الآخر، و”الاخوان ماركس” يدورون في مدارهم، بشكل متواصل.

آنا: أخبرنا عن تذوقك للكاريكاتير، الشخصية الكاريكاتورية الحاضرة جدًا في عملك.

فيلليني: إذا كانت إيطاليا قد نجت من كآبة التعليم البورجوازي المشوه المبتور بفعل هاتين السلطتين التوأمين المزدوجتين – الفاشية والكنيسة الكاثوليكية – فقد كان هذا بفضل السينما الأمريكية. كانت السينما الأمريكية هي القوت العظيم، كانت حياة أخرى. بل حتى قبل سينما الأمريكيين، اكتسب الأمريكيون شعبية كبيرة من خلال كاريكاتير الأشرطة الكوميدية، وكانت المجلة الإيطالية، “الكوريرا دي بيكولي”، تحمل على صفحاتها أعمال هؤلاء الرسامين الكاريكاتوريين – الفنانين العظام ليسوا فقط في مجال الرسم التصويري، لكن في النوع الأدبي أيضًا (بحكم التعليقات المقترنة بالكاريكاتير)، لأن الأدب الأمريكي لا يتجسد فقط في أعمال “شتاينبك” و”فوكنر”، لكن بواسطة “جيجز وماجي”، “هانز وفريتز كاتزينجامر”، الشخصيات التي صارت لها شعبية كبيرة جدًا في إيطاليا. لقد أعطونا شعورًا بالامتنان نحو أمريكا التي ساعدتنا على أن نتحمل الابتزاز الثقافي لذلك الوقت.

آنا: هل كان هذا هو ما قادك لأن تصبح رسامًا كاريكاتيريًا؟

فيلليني: كصبي اعتدت قضاء الساعات محاولاً نسخ تلك الرسوم. كان لديَّ دائمًا ميل للخربشة أو الشخبطة على أي سطح أبيض – إنها العادة التي أحافظ عليها عندما أعد لفيلم، ولأنني لم يعد لديَّ ذكريات سينمائية للكلاسيكيات العظيمة، يظهر الفيلم لي أولاً عبر الرسوم التخطيطية (الاسكتشات) التي أرسمها. هذه الاسكتشات تمكنني من أن أفهم منظوريًا، وأتوصل إلى فضاءات مكان التصوير، والأزياء، وتحديد أي وجه للشخصية سوف أحتاجه – بالفعل، عندما أبدأ تحضير فيلم جديد تكون الخطوة الأولى هي الرسم. إنها أيضًا طريقة للقول لنفسي إنني أعمل، وأن الأمر كله على ما يرام وفي إطاره المرغوب. أثناء سنواتي الأولى في روما عملت أيضًا كرسام كاريكاتوري، من أجل لقمة العيش أو لكيلا أستدين: كنت أحيانًا أدخل إلى المطاعم وأسأل بجرأة إن كان أي شخص يريد أن أرسم له رسمًا كاريكاتوريًا.

آنا: بعد عمل فيلم “الحياة الحلوة” كانت هناك فترة زمنية لمدة سنتين قبل إنتاج فيلم “ثمانية ونصف”، الفترة التي قيل أثناءها، أنه بدا أنك كنت تعاني من أزمة تعبيرية. ينبغي على المرء دائماً أن يتمنى المرور بأزمة تعبير، ما الذي تستطيع أن تفعله بدونها؟ “ثمانية ونصف”، إذن، نتاج هذه الأزمة، تقريبًا كما لو أنه الفيلم الوحيد الذي كان يمكنك عمله؟ ما الذي ألهمك فكرة عمل فيلم عن تنفيذ فيلم؟

فيلليني: إنه صعب بما فيه الكفاية أن أتذكر الأفلام التي قمت بعملها، بل وحتى موضوعاتها. على أية حال، لفترة من الوقت كان لديَّ في ذهني فكرة عمل بورتريه لرجل في طبقات عديدة: ذكرياته، أوهامه، أحلامه، حياته اليومية، الشخصية التي حتى الآن ليس لها هوية أو مهنة شخصية (في البداية لم يكن مخرجًا سينمائيًا). أردت رواية الأبعاد المتعددة لليوم الواحد، الحياة الواعية واللاواعية المتفتحة مثل لولب، بدون حدود تعريفية، وتجاهل فكرة أي حبكة، من أجل سرد حر، من أجل دردشة. الفكرة كانت استعادة معنى الإحساس بالزمن حيث الماضي، والحاضر والمستقبل، الأحلام، الذكريات والرغبات قد امتزجت أو تآلفت معًا.

كان مشروعًا طموحًا جدًا، أكثر مما يمكنني التعبير عنه. ثم ذهبت إلى “شيانسيانو”، وهي بلدة منتجعات، لتلقي العلاج، وهذه البيئة –  وطقوسها أن تصطف في طابور انتظار ومعك كوب من أجل استعادة الصحة، فخامة المنتجع، الإحساس التطهري الذي يبرز دائمًا عندما تتحد مجموعة من الناس في نفس الطقوس، مثل الباليه – أكسبني هذا خلفية لهذه التأملات: إمساك بالرجل في لحظة توقف مؤقت لإيقاعاته اليومية، ذلك لأن هناك تهديدًَا، ربما المرض.

لكنني لم أعرف شخصيتي. كنت قد فكرت في كاتب، محامي، صحفي: لم يكن بإمكاني أن أحزم أمري، وهذه الذكريات، وهذه التأملات التي بدون وجه أو ملامح كانت تخبو إلى لا شيء. ربما كان هذا هو الدرس العظيم لفيلم “ثمانية ونصف”: في وقت ما قلت لنفسي، “دع المحرك يدور، أجعل الجميع بداخل الاستديو، سيمدك شخص ما بما تريد، سيجبرك ويجبر الناس الآخرين على جعلك تعمل شيئًا”. لهذا فعلت ذلك. بدأت بناء المكان، توقيع العقد مع الممثلين، وبدأ الفيلم في التحرك. في البداية، لم يكن لديَّ نص، فقط بعض الملاحظات، مشهد أو اثنين كُتِبا بواسطة “توليو بينيللي” و”إينيو فلايانو”، وثرثرتي الدؤوبة التي لا تنتهي عما أردت عمله. بدأنا بناء ديكور مشهد بيت المزرعة، وبعد شهرين من العمل الكثيف أدركت أنني لا أعرف ما أريده. كنت تقريبًا أذهب يوميًا إلى الاستوديوهات وأقضي نهاري كله في مكتبي، أرسم، أجري مكالمات، لكن الفيلم لم يكن هناك بعد.

في يوم كنت جالسًا إلى الآلة الكاتبة وبدأت كتابة خطاب إلى المنتج: “عزيزي ريزولي، هذا الخطاب ربما سوف يسيء إلى علاقتنا المهنية، إلى جانب صداقتنا الجميلة؛ أنا آسف لأخذك على عاتقك التزامات لعمل هذا الفيلم، لكن يجب عليَّ أن أطلب منك وقف كل شيء”. وبينما كنت أكتب هذا الخطاب؛ ناداني شخص ما من المجموعة من أسفل: “جاسبارينو”، أمسك بيدي، كان يدعوني للمشاركة في حفلة صغيرة في المسرح، حيث كان عامل آخر، “بوشيو”، يحتفل بعيد ميلاده الستين. تركت خطابي وتبعت “جاسبارينو” حتى مكان التصوير في الاستديو حيث ألقى الجميع وكان “بوشيو” يصب الخمر في كؤوس من الورق المصقول. أخذت كأسًا، وتمنيت له ميلادًا سعيدًا، وقال “بوشيو”: “سيكون هذا الفيلم رائعًا”. شعرت بخيانتي، كقبطان يترك طاقمه: شكرت “بوشيو” وبدلاً من العودة لخطابي دخلت إلى الحديقة. جلست فوق أحد مقاعدها وفكرت، “أنا المخرج الذي لا يتذكر ما أردت عمله” – وفي هذه اللحظة تم وضع الفيلم: “هذا ما سأفعله. قصة المخرج الذي لا يتذكر فيلمه الخاص به”.

بعد أيام قليلة دخلت معامل الأفلام في إضراب عمالي وأراد الجميع وقف التصوير ذلك لأنه من المستحيل فحص “الراشات” (لقطات النسخة المصورة قبل أن تصبح فيلمًا) لكنني قلت، “لا، سنمضي قدمًا”. صورت لمدة أربعة أشهر دون أن أشاهد ما أفعله، بل وأمرت بهدم التجهيزات والأبنية الغالية ليتم إتاحة المكان لمشاهد جديدة، وقمت بتسريح الممثلين الذين أنهوا الأجزاء الخاصة بهم؛ أصيب المصور بانهيار عصبي. عندما انتهى التصوير قضيت ثلاثة أيام في غرفة العرض لرؤية عمل الشهور الأربعة. كانت مهمة تاريخية، بالنسبة للشخص الذي صوَّر فيلمًا بدون معرفة ما الذي يعمله.

ولِدَ الفيلم في روح اللامبالاة، من التلقائية، من الثقة والتحدي، الفيلم المحظوظ الذي صار فيما بعد ناجحًا جدًا أصبح نوعًا سينمائيًا – جنبًا إلى جنب مع الأفلام “الويسترن”، و”الأفلام البوليسية”، هذه نوعية “ثمانية ونصف”. إذا كان هناك درس تعلمته من هذه التجربة، فهو أن كل الأشياء التي تحدث أثناء إنتاج الفيلم، حتى ولو كانت متناقضة، ومتنافية، وغير ملائمة، ومعوقة للتدفق، كلها يمكن أن تصبح قوتًا للفيلم.

آنا: ألم ينتابك القلق أبدًا؟

فيلليني: الخوف من الكارثة مثير جدًا بالنسبة لي، أنا أعشق الحطام، ونُذر النهاية، النهاية تبدو كإشارة لبداية جديدة. لا أبحث عن الكوارث، لكنني أحتاج إلى هذا الجو المتوعد المفزع. سر إبداعي بسيط جدًا: أوقع عقداً وآخذ عربونًا، أعرف أنني لن أرده أبدًا، وتهديد الانتهاء في السجن أو كون سمعتي معرضة للتشويه تمامًا، هو الحافز لعمل فيلم. ربما أنا تمامًا مثل رسامي عصر النهضة الذين كانوا يتقاضون عمولات من البابا أو الأمير وإذا أخفق التسليم يكون الإرسال إلى السجن أو ما هو أسوأ.

آنا: ما الذي تفضله، الفيلم الذي يحقق الكثير من المال في شباك التذاكر لكن لا يتلقى كثيرًا من المدح من قبل النقاد، أم الفيلم الذي لا يبلي بلاء حسنًا فيما يخص العائدات، لكن يتلقى هتافات الاستحسان نقديًا بشكل كبير؟

فيلليني: المال؟… لا أريد أن أبدو غير مهتم بالمال أو ملائكيًا، لكنني حقًا لا أهتم. لا أبالي بالنتائج عندما أصنع فيلمًا، لا حماس النقاد ولا عائدات شباك التذاكر – المرء يصنع فيلمًا لذاته، لأن ذلك يرضيه، لأنه ينبغي عليه ذلك، بصرف النظر عن هذه الجزئية الصغيرة الخاصة بالعقد والمقدم. بالطبع أكون راضيًا إذا أشبع الفيلم متطلبات معظم النقاد وفي الوقت نفسه قدم شيئًا لصالح الجماهير، بالتأكيد إنه الهدف المرجو في قرارة نفسي، بالرغم من أنه لا يكون حاضرًا أبدًا عندما أعمل. لا أعتقد أن أحدًا في هذه المهنة يجب عليه أن يكون مهتمًا بأي أمر آخر سوى قدرته على أن يكون الوسيط الناقل لما يريد أن يعمله: تلك الشخصيات، تلك الأوضاع والمواقف، ذلك الوجدان المختلط بين الحنين، والأسف، والتنبؤ، ذلك الجو الغامض الذي هو الأوكسجين الذي يعطي الحياة للألوان والشخصيات. تلك هي المرجعية الوحيدة للفرد الذي يحاول تحويل حلم إلى شيء مادي وملموس.

آنا: هل تقول إن لك جذورًا في الواقعية الجديدة وأنا أفكر بتعاونك مع “روسيلليني” كسيناريست لفيلم “باييزا/مناظر طبيعية” و”روما مدينة مفتوحة”؟

– يبقى “روسيلليني” خارج البقية الذين يسمون بالواقعيين الجدد ذلك لعينه، لتدخله كشاهد قوي جامح العواطف عرف كيف يصور الهواء حول الأشياء، ولعدم اعتباره رؤيته للسينما باعتبارها مجرد مشاهد. شاركت بدور كمتفرج في “مناظر طبيعية” و”روما مدينة مفتوحة”، وربما تعلمت طريقتي في الاقتراب من السينما من “روسيلليني”، الذي عمل في أكثر الظروف ارتباكًا ولا معقولية: الفواتير المنتهية الأجل، التعقيدات الرومانسية، الصراعات، الحرب. أتذكر في “نابولي”، أثناء تصوير “مناظر طبيعية”، في منتصف أو بعرض الشارع، فوجئنا بدبابات الحلفاء في استعراض خلف ظهورنا، وكان هو هناك، بالبيريه الخاص به والميكروفون: مثل إله غير مكترث أو مبال يدبر زلزالاً فقط من أجل إمكان تصوير ذلك الزلزال. هذا هو الدرس الحقيقي الذي علمته لي الواقعية الجديدة.

آنا: كان لفيلم “الحياة الحلوة” نجاحًا كبيرًا ليس فقط في إيطاليا، وإنما أيضًا في أوروبا والولايات المتحدة. هل كنت تعتقد في ذلك الوقت أنك كنت تصنع أفلامًا للجمهور العالمي؟

فيلليني: لا، لا أعتقد هذا – إن كنت خططت أفلامي في ضوء تلك المعايير، فكيف أمكن لي أن أعمل فيلم “أماركورد”؟ أعتقد أنه إذا كان للمرء ميل طبيعي أو موهبة صادقة وأصيلة وغير تأملية للتعبير عن نفسه عن طريق الرسم، الأدب، الموسيقا أو السينما، فإنه لا يمكن أن تكون لدى المرء هموم أخرى غير هذا الإخلاص وتلك التعبيرية. عملت دائماً الأفلام التي أردت عملها.

أتذكر أنني كصبي لم أكن أعرف ما الذي أريد عمله في الحياة. كان لدى زملاء دراستي جميعهم أفكار معينة – أرادوا أن يصيروا أطباء أو محاميين – لكنني أردت أن أصبح رسامًا تشكيليًا، رسامًا كاريكاتوريًا، صحفيًا، ممثلاً، وفي النهاية اخترت المهنة التي هي كل هذه الأشياء معًا. عندما أكون وسط المجموعة أكون هنا مئة بالمئة. أكون مصدر إزعاج للآخرين: أنا نجار، خياط، كهربائي، أعلق الصور على الحوائط، أضع المكياج أو أنصح أخصائي المكياج كيف يؤكد تعبيرات الوجه لكي يعبر بفورية أكثر، وبتلقائية أكثر.

آنا: هل تعتقد أنك مدين بشيء ما للتقليد الشعبي الإيطالي الذي ألهم “توتو” فنه العظيم؟

فيلليني: إذا كنتِ تشيرين إلى “الكوميديا دي لارتي”، ذلك المزيج من التقليد والارتجال، الذي اغتنم الفرصة من كل موقف اقترحه الجمهور أو المزاج السيئ لإحدى الممثلات، فأنا بالتأكيد استلهمت التقليد الشعبي.

كل ما قلته عن “ستان” و “أولي” أو “الاخوان ماركس” يمكن أن أكرره بنفس الحماس عن “توتو”، لكن مع إضفاء مسحة الاضطراب أو القلق التي كانت لديه لكونه رسولاً من الآخرة، شيء ما “نابولاني” (نسبة لمدينة نابولي) عميق، طيفي، ابتسامة تهكمية عريضة في مواجهة كارثة.

قابلت “توتو” للمرة الأولى في 1938 عندما كنت أعمل كصحفي في روما. كنت قد رأيته في المسرح وتأثرت به، تظاهرت بكوني “فريد ماكموري”، قبعتي على مؤخرة رأسي وقلم رصاص خلف أذني، ذهبت إلى غرفة ملابسه لمقابلته وأجريت الحوار معه. بعد أسبوع عدت إليه لأطلعه على المقالة والكاريكاتير الذي عملته له. عملت معه لمرة واحدة فقط، 20 سنة بعد اليوم الأخير لتصوير فيلم “حمامة الحرية”، لـ”روسيلليني”، كان “روبرتو” مريضًا وطلب مني المنتج أن أنهي الفيلم. الجميع أطلقوا عليه لقب “الأمير” وكان أميرًا بالفعل، لذا ناديته كذلك أنا أيضًا. “أنت” قال: “بإمكانك أن تناديني أنطونيو”. كان مثل حفل تنصيب أسقفي. بعد سنوات كثيرة قابلته ثانية، أعتقد أنه عندما كنت أعمل فيلم “ثمانية ونصف”، في استديوهات “سكاليرا”. كان تقريبًا قد فقد البصر، كان يلبس نظارة شمسية سوداء، وأثناء الاستراحة أخذه الصديق “النابولاني”، “دونزيلي”، إلى نفس الحديقة التي كنت جالسًا فيها للتفكير في فيلمي. كان “توتو” يجلس في الشمس، مثل سحلية صغيرة، ودمعت عيناي عند رؤية هذا الرجل الهزيل الصغير يدفئ نفسه في الشمس. اقتربت منهما وسألت “دونزيلي” عن صحة “توتو”؛ أجابني أنه قد فقد بصره تمامًا. في نهاية الاستراحة عادا إلى مكان التصوير. تبعتهما إلى الداخل، ووقفت في أحد الأركان لأراقب من وما أمامي. أعطى المخرج توجيهات قليلة عن المشهد الذي سيصور، تقدم شخص ما وخلع عنه نظارته الشمسية ووضع قبعة مستديرة على رأسه، بعض الممثلين أخبروه بأماكنهم، انطلق الجرس، و… المعجزة. تحرك بسرعة شخص له مئة عين. حتى خلف رأسه: التزم مساراته، تحرك إلى النقاط المحددة له، وعندما قال المخرج، “ستوب”، توقف.

هل تعرفين قصة “بينوكيو“؟ عندما جاء “بينوكيو” إلى المسرح وتساءل المهرج “هارل كوينْ”، “من هناك، هل هذا بينوكيو؟”، وتتعرف عليه كل عرائس الماريونيت، ويقفز “بينوكيو” إلى الخشبة ويرقص معهم؟ سأكون بالضبط في نفس الوضع إذا قال لي “توتو”: “آوهِ، يا فيدري!” يبدو لي أنه كان لديَّ دائمًا شعور بالانتماء إلى كتيبة أنواع الكوميديا المختلفة، وأقول هذا بدون أي مجاز رومانسي أو أدبي: إنها أكثر وأقوى صفة تخصني، إنها هويتي الداخلية، هوية شخص يصنع المشهد، حتى أثناء إجراء المقابلات، ربما كما لاحظتِ أنتِ.

 

* نشرت في مجلة “Sight and Sound”، إبريل 1993 أي قبل ستة أشهر من وفاته – المترجم.