محمد هاشم عبد السلام

 

في فيلمه الأخير، قدم لنا المخرج الفرنسي المخضرم أندريه تيشينيه، في السبعينات من عمره وهو أحد عمالقة الإخراج الفرنسي، أحد أقوى أفلامه في السنوات الأخيرة، وحمل عنوان “في سن السابعة عشر“، وقام تيشينيه بكتابة سيناريو وحوار الفيلم بالاشتراك مع كاتبة السيناريو الشابة “سيلين شياما”. في رصيد تيشينيه السينمائي ما يزيد عن العشرين فيلمًا روائيًا طويلا، بالإضافة إلى عدة أفلام تسجيلية وأخرى قصيرة، وذلك على امتداد مسيرته المهنية التي بدأها منذ نصف قرن تقريبًا، وتحديدًا في ستينات القرن الماضي.

على نحو شديد التريث والتمهل، وبطريقة متدرجة يبني سيناريو الفيلم، وينمّي رويدًا رويدًا وبمنتهي الحرفية والدقة، أمام أعيننا علاقة شائكة للغاية بين صبيين مراهقين، في سن السابعة عشر، بحيث تأتي الذروة في النهاية على نحو غاية في الإقناع والقوة والمهارة، دونما أدنى افتعال أو إقحام. ومن بين الأمور اللافتة للغاية في السيناريو أنه دائمًا وعلى امتداد زمن الفيلم الذي ناهز الساعتين، يخلف المخرج وكاتبة السيناريو توقعاتنا، فتارة نعتقد أننا بصدد فيلم عن العنف المدرسي أو عنف المراهقين، وتارة نظن أن للفيلم علاقة بعدم تأقلم أبناء المهاجرين أو أصحاب البشرة السمراء أو الأبناء بالتبني في المجتمعات الأوروبية، وتارة أخرى يخيل إلينا أننا بصدد أسرة تفتقد للسلطة الأبوية الذكورية الجنسية، على غرار فيلم “نظرية” للعملاق الراحل بيير باولو بازوليني، لكننا في النهاية ورغم كل تلك المقاربات نجدنا بعيدين تمامًا عن تلك الإحالات.

في آخر فصولهما الدراسية بالمدرسة الثانوية، وكل منهما على أعتاب مرحلة حياتية جديدة لا يعرف على وجه اليقين ما الذي يرغب في أن يفعله بمستقبله، وما هي أحلامهما على وجه التحديد، نتعرف على المراهقين “داميان” (كيسي موتيت كلاين)، و”توماس” (كورنتين فيلا). إنهما ليسا قريبين أحدهما من الآخر اجتماعيًا، وليس ثمة قواسم مشتركة بينهما جسديًا أو ذهنيًا أو حتى اهتمامات أو هوايات مشتركة.

داميان شديد الذكاء، لا يتوقف عن المذاكرة والاجتهاد، ينجح في حل المسائل الرياضية التي يتعثر فيها توماس وأحيانًا يستعرض عليه بتفوقه. وعندما يستأسد عليه توماس جسديًا يرفض داميان دور الضحية، ويكشف عن قوة جسدية وعنف وشراسة لا تقل عن تلك لدى توماس، فهو يزور يوميًا صديق العائلة “باولو” (جان كورسو) من أجل التدريب على الملائكة وفنون الدفاع عن النفس. ويعيش داميان وحيدًا في المدينة وتعمل على إيصاله يوميًا والدته الطبيبة “ماريان” (ساندرين كبيرلين)، بينما والده “ناثان” (السيس لوريت) يعمل طيارًا حربيًا.

يسكن توماس، وهو ابن بالتبني ثنائي العرق أسمر البشرة، عاليًا في الجبال، في مزرعة والده، حيث يذهب ويجيء عن طريق الحافلة في رحلة شاقة ومُجهدة للغاية تستغرق ما يزيد عن الساعتين يوميًا ذهابًا وإيابًا. ويضطر بعدها للخوض في الثلوج الكثيفة للوصل إلى المنزل، في مكان منقطع بعض الشيء. وهناك، يعيش حياة تبدو برية وبربرية جافة منعزلة، لا أصدقاء فيها أو أي تواصل اجتماعي من أي نوع، وهو حتى بعيدًا عن عدوانيته تجاه داميان، يتسم بالصمت التام حتى مع والديه، وبغرابة الأطوار، فكثيرًا ما يذهب إلى الغابة قبل الليل، وفي البرد القارس يتجرد من ملابسه تمامًا ويقفز في البحيرة أو يتتبع آثار دب بالمكان دونما خوف من ظهوره المفاجئ. كما أنه يتسم بالنضج الشديد والإحساس العميق بالحزن والكآبة وكأنه شيخ طاعن.

نلاحظ أن كليهما يعاني من ضعف العلاقات الاجتماعية والأسرية، وحتى على مستوى المدرسة ليس ثمة أصدقاء أو انخراط في علاقات مع صديقات من نفس السن أو حتى خروج في عطلات نهاية الأسبوع مع أصدقاء أو زملاء من المدرسة أو خارجها. منذ البداية، ينقل تيشينيه الصراع غير المفهوم أسبابه ولا دوافعه بين المراهقين من مرحلة العنف والعراك والاقتتال بالإيدي والأرجل إلى مرتبة أخرى تحل فيها الغيرة والمنافسة محلهما ويبدو معها الأمر عرقيًا أو طبقيًا، حتى نصل في النهاية إلى الذورة مع تدرج تلك المشاعر وتحولها القوي لعلاقة عاطفية كان من الحتمي في النهاية أن تنتقل وتصل بهما إلى علاقة جسدية كاملة.

ذهبت ماريان ذات يوم، بعدما استُدعيت، لعلاج والدة توم “كريستين” (ماما براسيون) من التهاب رئوي ألم بها، فتكتشف كريستين أنها حبلى فينتابها الخوف. فقد عانت من قبل من حالات إجهاض كثيرة وترغب في محاولة الإنجاب رغم المخاطر. تعجب ماريان بنباهة توماس وشعوره بالمسئولية، والجهد الذي يبذله يوميًا من أجل أسرته ومساعدة والده في المزرعة، ولذلك تصر على أخذه لمنزلها، من أجل أن تذهب والدته للرعاية الطبية في المستشفى حتى لا تتدهور صحتها، ويكون في نفس الوقت قريبًا من المدرسة، ويستطيع تحصيل دروسه، وأيضًا مساعدة ابنها له في المذاكرة، وإذابة أي حواجز بينهما واعتيادهما على معايشة الحياة اليومية تحت سقف واحد، ومن ثم تدريجيًا تذوب حالة الاحتقان تلك، وتتلاشى أي عدوانية بينهما، وربما يتطور الأمر أكثر ويصيرا أصدقاء.

أمومية وحنان وعطف “ماريان” تجاه توماس مبالغ فيها، وربما تكون نزقًا زائدًا غير مبرر أحيانًا، الأمر الذي أثار شك وغيرة ابنها وخشيته من أن يكون توماس يتحرش بوالدته أو أنها أتت به للمنزل من أجل الاستعاضة به والده الغائب خارج البلاد في مهمة عسكرية أو لاحقًا بعد وفاته المفاجئة. وبالفعل في أحد المشاهد القوية بالفيلم نميل إلى هذا التفكير، وإلى أن تيشينيه وكاتبة السيناريو سينجرفان إلى هذا المنزلق، لكن لبراعتهما وقوة كتابة السيناريو يجعلان مشهد ممارسة الجنس الذي يقع بينها وبين توماس مجرد حلم مخيف تحلمه، وسرعان ما تنساه بالمرة في الصباح.

يحاولان على مضض التعايش معًا تحت نفس السقف، إلى أن تزداد حدة التوتر بينهما، فيتفقان على الخروج للغابة ذات يوم لتسوية الصراع بينهما قتاليًا، وبالفعل يلتقيان هناك بعيدًا عن أعين الناس أو المحيطين في لقاء يبدو من خلاله أن أحدهما سوف يصرع الآخر دون أدنى تردد، حتى توقفهما الأمطار عن الاستمرار في العراك الدامي. بعد ذلك، وبعدما كان الأمر خفية وخلسة، تدريجيًا لا يستطيع داميان الإشاحة بعينيه عن توماس، وشيئًا فشيئًا يصبح الصمت هو القاسم المشترك الوحيد بينهما عندما يلتقيان معًا، ومع الوقت تتشكل بينهما على نحو غير مألوف ولا مفهوم لهما عواطف غامضة.

“لا أعرف إن كنت مثليًا فعلا أم أنني منجذب إليك فحسب”، يقول داميان، وذلك بعدما بحث على الإنترنت عن أحد الرجال وجعل توماس يقود السيارة ويذهب به لماقبلته دون درايته، وهناك يشعر بالنفور الشديد من الرجل ويتراجع عن فعلته، وبعدما بفترة وجيزة يفاجئ توماس، الذي ينفر بطبعه من كل من يتقرّب منه، بقبلة على فمه. كان الأمر مفاجئًا لهما معًا. ما الذي يفعله هذا السن في قلوب وعقول المراهقين الواقفين على أعتاب مرحلة البلوغ الكامل، وبصفة خاصة في حالة مواجهة مجموعة من المشاعر غير المألوفة المصحوبة بالخوف والارتباك والقوة والعنف؟

هل هذه فقط مجرد مرحلة لاستكشاف الجنس وممارسة لشهوة زائلة وسيتعرفان بعدها تدريجيًا على هويتهما الجنسية ورغباتهما الصحيحة؟ إنهما غير قادرين بالمرة على تحديد طبيعة تلك العلاقة الغريبة. وحتى أثناء مشهد الفعل الجنسي، الذي توقع المرء أن يكون هناك بين سالب وموجب، فإذا بهما يمارسان معًا فعل السيادة والهيمنة أحدهما على الآخر. تدريجيًا يتفهم ويحب كل فرد منهما نفسه بالأساس ثم الآخر، والمُرجح أنهما سيتصالحان مع ذواتهما ومستقبلهما، ويبدو هذا جليًا مع إخبار داميان لوالدته بميوله، وانتفاء الرعب والفزع من نفس توماس بعد ولادة الطفل الجديد، واطمئنانه بأنه لن يتم التخلي عنه.

إنه فيلم يتخطى مفهوم المثلية الجنسية أو يصعب إدراجه على نحو صرف وصارم ضمن فئة الأفلام التي تتناول المثلية الجنسية. إنه عما ينتاب تلك الشريحة العمرية من ميل للعنف أو الشهوانية، الخسارة المؤلمة أو اكتشاف العطاء، الوحدة أو الرفقة. إن كمية المشاعر المركبة والمعقدة والمكبوتة التي بدت في أعين بطلي الفيلم على نحو مرهف للغاية دون أن يجهرا بها صراحة، لا سيما مشاعر الحب والجنس، جعلت الفيلم ينأى عن الوقوع في الإغراق العاطفي أو الجنسي أو الشهواني.

وقد استطاع تيشينيه، ومعه مديري التصوير والمناظر، استغلال مكان التصوير على نحو بالغ وشديد الحضور، الأمر الذي جعله فاعلا وغاية في القوة والبروز، فمن الجبال للمزرعة للمدينة الصغيرة للثلوج للبحيرة، وغيرها من عناصر الطبيعة بصفة عامة، بما فيها تقلبات المناخ التي تُحيل دون شك إلى التقلبات والصراعات المُعتملة في ذوات الشخصيات. كما نقل لنا المخرج الصدام والعدائية عبر بطليه على نحو شديد التكثيف، وقد اتسم أدائهما بالبراعة والصدق والاستيعاب التام لدوريهما، بداية من نظرات العيون وانتهاء بحركات الجسد. ونفس الشيء ينطبق على ساندرين في دور الأم الذي كان لافتًا وقويًا طوال الفيلم.