محمد هاشم عبد السلام

كاتب وناقد ومترجم مصري

 

فيلم “45 عامًا”، هو ثالث الأفلام الروائية للمخرج البريطاني المتميز “أندرو هاي”، وبطولة الممثلة القديرة شارلوت رامبلينج (68 عامًا) في دور “كيت”، والممثل المتألق “توم كورتيناي” (77 عامًا) في دور “جيف”، وكليهما أديا مباراة تمثيلية جد راقية، تعطي درسًا في كيفية تفهم الممثل لدوره ومعايشته له حد التشبع. وكيف أنه بالإمكان أداء أقوى وأصعب وأقسى المواقف الدرامية والحزينة والانفعالية فقط عن طريق التغيير في نبرات الصوت وتعبيرات الوجه وحركات الجسد، بعيدًا عن أي تشنج أو صراخ أو ميلودرامية مفتعلة، وهذا الأداء وصل إلى ذروته مع المشهد الختامي المبهر للفيلم. ولذلك لم يكن غريبًا بالمرة فوز شارلوت رامبلينج وتوم كوتيناي بالدب الفضي لأحسن ممثل وممثلة في الدورة الفائتة من مهرجان برلين.

على امتداد خمسة أيام تسبق احتفالهما بعيد زواجها الخامس والأربعين، يرصد لنا أندرو هاي في “45 عامًا”، وعلى نحو مكثف، حياة زوجين تنقلب رأسًا على عقب بعد وصول رسالة إلى الزوج، الذي يقول، قبل وصول الرسالة، متحدثًا إلى زوجته عن كتاب قرأه عن التغيرات المناخية، أنه عندما يذوب النهر الجليدي، يُحدِث فوضى عارمة من المياه التي تندفع وتتجمع وتتراكم هنا وهناك فيما يشبه التسونامي الذي يدمر الصخور وكل ما في طريقه. تلك الرسالة التي وصلت إلى الزوج، والتي كان من الممكن أن تمر مرور الكرام، اتخذها المخرج تكأة ليطلق منها تسونامي قادمًا من الماضي بكل قوة واندفاع ليلقي بآثاره المدمرة على زواج جيف وكيت. هل كان هذا التسونامي متجمدًا طيلة تلك السنوات في انتظار أن ينطلق لسبب أو آخر، أم أن زواجهما نفسه هو الذي كان متجمدًا وسرعان ما ذاب؟

من بين ما تطرحه قصة الفيلم، مسألة الزواج والعلاقة الزوجية أو المؤسسة الزوجية بصفة عامة. وهل من الممكن أن ينهار ما نطلق عليه “العشرة” أو الحب والتفهم والتعود بين زوجين استمرت العلاقة بينهما لأكثر من أربعة عقود؟ ولتعميق مثل هذه الأسئلة المطروحة ضمنيًا في ثنايا الفيلم، لجأ المخرج عن عمد، دون شك، لجعل الزوجين بلا أطفال أو حتى أقرباء حميميين أو جيران ملاصقين، فقط مجرد أصدقاء عمل أو رفاق عابرين وكلب. وهذا يعني أن هذين الزوجين، اللذين يتناول الفيلم عدة أيام من حياتهما، شديدا الالتصاق جدًا على امتداد حياتهما. إلى جانب هذا، أضاف المخرج، عامل التقدم البالغ في السن. فلو كان كيت وأندرو في شبابهما لأختلف الأمر كثيرًا، وبدت قصة الفيلم عادية وفقدت قوتها إلى حد بعيد.

مثل هذه التفاصيل الشديدة الصغر التي حفل بها الفيلم وتعمّد المخرج، بوصفه كاتبًا لسيناريو الفيلم، بثها في ثنايا الحبكة، والاعتناء بها لأقصى درجة عند اقتباسه للقصة القصيرة التي تحمل عنوان “في بلد آخر”، للكاتب والأديب البريطاني المخضرم ديفيد كونستانتين، من مجموعته “تحت السد” (2005)، هي التي شكلت في النهاية الكيان القوي لبنيان الفيلم الشديد التماسك والتكثيف، والذي امتد لساعة ونصف الساعة تقريبًا، وجعلتنا كذلك منغمسين لأقصى درجة ومتفاعلين مع معاناة بطلي الفيلم، والأدهى أننا متفهمين تمامًا لموقف كل منهما.

جيف لم يخن كيت ولا كذب عليها، لأنها كانت على علم بعلاقته السابقة بكاتيا وبملابسات وفاتها. كانت كاتيا قد توفيت قبل خمسين عامًا أثناء إجازة رومانسية لهما، كاتيا وجيف، بجبال الألب للتزحلق على الجليد، وهناك بأحد الأنهار الجليدية طمرت الجثة، ولم يعثر لها على أثر إلى أن اكتشفت مؤخرًا بعد ذوبان مفاجئ للجليد، الأمر الذي استدعى إخبار جيف حبيبها ورفيقها السابق، والذي نجا وقتها من نفس المصير الذي لاقته كاتيا. وكان جيف قد وقع على وثيقة وفاة كاتيا آنذاك بوصفه أقرب الناس إليها، وهو الأمر الذي جعل السلطات السويسرية ترسل له تلك الرسالة كي يأتي للتعرف على الجثة والإشراف على دفنها إن أراد.

وعلى طريقة ما تتعامل معه باستخفاف واستهتار، وتعتبره هينًا، ينقلب في أحيان كثيرة وحشًا مدمرًا، تعاملت كيت وحتى جيف نفسه، في أول الأمر، مع الرسالة وما حدث على أنه ماضي مات ودفن مع تلك المرأة وسط الجليد قبل خمسة عقود. وفكرت كيت كثيرًا أنه ليس من المعقول ولا يصح أن تغار من امرأة لم تعرفها قط ولن تقابلها أبدًا، امرأة ماتت ودفنت. لكن، تدريجيًا، ومع تيقظ الأثنى وإعمال كامل حواسها وقرون استشعارها، سرعان ما تتطور الأمور وتتخذ منحًا خطيرًا تتزايد وتيرته تدريجيًا مع توالي الساعات التي تسبق الاحتفال. إذ تتبين كيف أن اسمها يتماس مع اسم كاتيا، وكذلك رائحة العطر الذي يحب زوجها أن تضعه، ولون شعرها، وطبيعة الموسيقا التي يستمعان إليها، ونوعية الأغاني التي يفضلانها إلى آخره من التفصيلات، التي كانت تظن أنها تخصها هي وجيف، واتضح أنها تخص جيف وكاتيا.

وعلى النحو الذي يضرب به تسونامي ويزلزل كيان كيت، كذلك يفعل في جيف، الذي يأخذ في التدخين ثانية ويتوتر ويميل للعزلة ويذهب لشركة سياحة ليستفسر عن الرحلات، أي يفكر أو فكر في السفر بالفعل، ومن ناحية أخرى يعترف لزوجته أن كاتيا كانت خطيبته وليست مجرد حبيبته، وأنه اعتقد أن أمر الخطبة من عدمه لن يؤثر على علاقتهما. أيضًا يحاول التنفيث عن حالته أو ربما التواصل مع كيت جنسيًا كي يستعيدها إليه أو ربما يستعيد ماضيه مع كاتيا لكنه يفشل. بدورها، وبعدما انتبهت لكل هذا، وفي غمرة تجهيزها لترتيبات الحفل بمنتهى الدقة، تخطو كيت خطوة جسورة نحو الماضي، إذ تفتح السندرة وتطلع على ألبومات وصور زوجها، لتتعرف للمرة الأولى على صورة كاتيا وتصدم بأنها أيضًا كانت حاملا.

ثمة أسئلة كثيرة وعميقة، يمكن أن تمتد بنا إلى ما لا نهاية، يطرحها علينا فيلم “45 عامًا”، ومن بينها، التعايش والصدق مع الآخر في هذا التعايش. أيضًا، الماضي، ذلك الغول المرعب، وأشباحه الكارثية التي قد تطل بين الحين والآخر أو تنبعث لتؤدي لتبعات تقلب كل شيء رأسًا على عقب. وهل من الممكن أن نعيد تقييم الحاضر ونتخذ قرارًا بشأنه بناء على الماضي؟ كذلك عن، الحب الأول في حياة الإنسان، هل ينسى، يموت، تخبو جذوته على مر السنين؟ وهل يقوى المرء على الاستمرار في الحياة والمواصلة مع شريك آخر كأن الماضي لم يكن؟ هل من الممكن أن يكتشف المرء بعد سنوات طويلة أنه لم يبرأ بعد من حبه الأول، حتى وإن لم يكن الطرف الآخر على قيد الحياة؟

أبعد أن يصل المرء إلى أرذل العمر، من الممكن أن يكتشف فجأة أنه لا يعرف الكثير عن نفسه التي بين جوانحه؟ وإن تسنى له هذا، فهل يمكن أن يكون على يقين من معرفته للآخر، حتى لو كان الآخر هو محبوبه أو شريك حياته على امتداد عقود طويلة؟ والأدهى من هذا، بعد ذلك الاكتشاف، هل من الممكن أن يقر المرء أنه كان على خطأ في معرفته بالآخر وحبه له؟ وعندئذ هل يعترف لنفسه وللآخر أنه قد خُدِعَ أو مارس هو الخداع، ويجسر، في النهاية وبعد كل هذا العمر، على اتخاذ قرار حاسم يصلح به الأمر ويضع حدًا لكل هذا؟ هل بعد كل هذه السنوات يمكن للإنسان أن يراجع نفسه ويكتشف ويرفض زيف المشاعر والاستمرار فيها، حتى لو كان هذا معناه تقويض كل شيء؟ أسئلة كهذه بدت لنا إجاباتها الحاسمة من جانب كيت وجيف، في المشهد الختامي البديع بالفيلم لحظة انعقاد الحفل، لكن كل على طريقته.