ستراسبورج – محمد هاشم عبد السلام

كاتب وناقد ومترجم مصري

 

 

مثل مدينة ستراسبورج، تجمع كاتدرائية ستراسبورج أو نوتر دام ستراسبوج، بين تأثيرات الثقافة الفرنسية والألمانية، كما تجمع بين الطراز الرومانسي والقوطي وبدايات عصر النهضة، وإن كان ينظر إليها بالأساس كمثال على مراحل تطور الطراز القوطي في العمارة بصفة عامة وبناء الكاتدرائيات بصفة خاصة. تجتذب الكاتدرائية أربعة ملايين زائر سنويًا، وتحتل المرتبة الثانية في الزيارة بعد كاتدرائية نوتر دام باريس، وهي كذلك الثانية في ارتفاعها بين كاتدرائيات فرنسا والسادسة على مستوى العالم 142م، واللافت في الأمر أن بناء الكاتدرائية استغرق ليس سنوات عديدة، بل قرون مديدة، وهذا جانب آخر من الجوانب الفريدة لهذه الكاتدرائية.

 

تاريخ

ترتفع الكاتدرائية على أنقاض معبد روماني قديم فوق تلة صغيرة لأرض موحلة. وقبل التفكير في بناء الكاتدرائية الحالية بنيت عدة كنائس صغيرة، لكن النيران طالتها لأسباب مختلفة، في أعوام 873، و1002، و1007. ثم، بدأ بناء أول نسخة من الكاتدرائية عام 1015 باقتراح من أسقف ستراسبورج فيرنر فون من هابسبورج، وبدعم من الإمبراطور هنري الثاني. لكن النيران دمرت معظم المبنى الخشبي الذي كان على الطراز الرومانسي، وكان هذا عام 1176، وما تبقى من ذلك البناء، حيث لم تمسه النيران، لا يزال تحت الكاتدرائية، وقد تمت توسعته باتجاه الغرب وبات يستخدم كقبو للكاتدرائية وككنيسة صغيرة.

بحلول نهاية القرن 12، اقتراح أسقف ستراسبورج، هاينريخ فون من هاسينبورج، بناء كاتدرائية جديدة تكون أكثر جمالا وعظمة من كاتدرائية بازل، التي كان قد تم الانتهاء منها في ذلك الحين، وأن تبنى بالحجر الرملي الأحمر المجلوب من جبال فوج القريبة بمنطقة الألزاس، وفي تلك الفترة كانت العمارة القوطية قد وصلت الألزاس وأخذت الكاتدرائيات اللاحقة تتبنى نفس الطراز وتعمل على تطوير جمالياته. وقد عهد بذلك البناء القوطي الأول للكاتدرائية إلى عمال وبنائيين وحجارين عملوا بالفعل في كاتدرائية شارتر القوطية الشهيرة وغيرها من الكاتدرائيات. وامتد العمل بالكاتدرائية على مدار ثلاثة قرون واكتمل في عام 1439.

 

بناء الكاتدرائية 1176 – 1439

بدأ البناء بمنطقة الكورس أو الجوقة جنوب المذبح ومنطقة الجناح الشمالي وذلك على الطراز الرومانسي، استلهامًا للكاتدرائيات الإمبراطورية القديمة. لكن، عام 1225، جاء فريق من شارتر لتثوير البناء ليكون على نمط العمارة القوطية، فجرى هدم أجزاء من الصحن وغيرها من الأجزاء المبنية على الطراز الرومانسي. وكان تأثير فريق عمل شارتر واضحًا في المنحوتات والتماثيل بصفة خاصة. ونظرًا لعدم توفر المال لظروف متعددة مرت بها ستراسبورج في تلك الفترة من أواخر القرن، ساهم المواطنون والأثرياء في صندوق للتبرعات بأموالهم الخاصة، وبعد جمع المال اللازم، اختير أرفين فون شتاينباخ عام 1284 للإشراف على الأمور التنظيمية للبناء، لكنه كان مفلسًا، وأراد التبرع للكاتدرائية، فلم يجد سوى حصانه الوحيد للتبرع به. ويعتبر أرفين هذا من أبرع المعماريين في تاريخ العمارة القوطية، وهو من تصور وصمم الواجهة الغربية الرائعة للكاتدرائية وكذلك مدخلها الرئيسي، وأنجز رسمه لشكل البرجين. وبوفاته عام 1318، كان البناء قد قطع شوطًا طويلا، وجرى الانتهاء من النافذة الوردية بواجهة الكاتدرائية.

 

التاريخ اللاحق

في أواخر العصور الوسطى، نجحت ستراسبورج في تحرير نفسها من سيطرة الأسقف وصارت مدينة حرة. وفي عام 1521 تحولت الكاتدرائية للبروتستانتية، واحتضنت الكثير من أصحاب الحركات الفكرية والدينية ومنهم جون كالفن صاحب المذهب الكالفني. وعام 1539، نصبت أمام الكاتدرائية أول شجرة عيد الميلاد في العالم، ومنذ ذلك التاريخ صار هذا الأمر تقليدًا متبعًا، تناقلته بقية البلدان. وبعد أقل من قرن، احتلت ستراسبورج من قبل لويس الرابع عشر، الذي أعاد ستراسبورج لفرنسا وللمذهب الكاثوليكي عام 1681.

وخلال القرن التالي جرت عمليات إحلال وإضافة للكاتدرائية من جانب معماريين كثر، وكان من أبرزها إحاطة الكاتدرائية بأروقة تحول دون وتعيد تنظيم محلات التجار التي اتخذت مكانًا لها حول جدران المبنى مباشرة. وعام 1794، حاول متمردوا الثورة الفرنسية الذين سيطروا على المدينة هدم البرج لأنه يضر بمبدأ المساواة، أحد المبادئ التي نادت بها الثورة، لكنه أنقذ من هذا المصير في النهاية، في حين تعرضت الكثير من تماثيل واجهة الكاتدرائية للتحطيم،. وخلال القرن التالي ظلت أعمال التوسعة والتجميل بالكاتدرائية وكذلك الأروقة المحيطة بها والتي انتهت فعليًا عام 1843. أثناء حصار ستراسبورج، تعرضت الكاتدرائية للمدفعية البروسية والتوى الصليب الذي يعلو القمة الإبرية المستدقة للبرج. وتعرضت قبة منطقة المذبح للثقب لكن أعيد بناؤها مرة ثانية على نحو أكبر على الطراز الرومانسي من جانب المشرف لفترة طويلة على ورشة العمل الدائمة بالكاتدرائية المعماري جوستاف كلوتز.

خلال الحرب العالمية الثانية، كان ينظر للكاتدرائية كرمز للطرفين المتحاربين. في 28 يونيو عام 1940، زار هتلر الكاتدرائية معتزمًا تحويلها إلى ملاذ وطني للشعب الألماني. وفي الأول من مارس عام 1941، أقسم الجنرال الفرنسي لوكلير بأننا لن نضع السلاح إلا عندما تحلق ألواننا الجميلة مرة ثانية فوق كاتدرائية ستراسبورج. خلال تلك الحرب، جرت إزالة الزجاج الملون من 74 نافذة، ووضعت بمنجم للملح قرب هايلبرون بألمانيا، ثم أعيدت مرة ثانية إلى الكاتدرائية بعد انتهاء الحرب، بواسطة قسم المحفوظات والآثار الفنون الجميلة بالجيش الأمريكي. تعرضت الكاتدرائية للضرب بواسطة القوات البريطانية والأمريكية خلال الغارات الجوية على وسط ستراسبورج في 11 أغسطس عام 1944. ولم يتم إصلاح أضرار الحرب الأخيرة إلا في وقت مبكر من تسعينيات القرن الماضي.

وفي أكتوبر عام 1988، أثناء احتفال المدينة بذكرى مرور 2000 عامًا على تأسيس أرجينتوراتوم (الاسم القديم لاستراسبورج)، حضر الاحتفال البابا يوحنا بولس الثاني وأقام قداسًا بالكاتدرائية. وكان هذا الحدث أيضًا مناسبة للاحتفال بالمصالحة الألمانية الفرنسية وانتهاء النزاع على ستراسبورج. وفي عام 2000، أحبطت الشرطة الفرنسية والألمانية محاولة تنظيم القاعدة لتفجير سوق عيد الميلاد الذي يقام وتنصب أكشاكه منذ مئات السنين أمام بواباب وساحة الكاتدرائية ويعتبر أكبر وأقدم سوق للاحتفال بالعيد في الألزاس كلها.

 

الواجهة

يثير دهشة الزوار العمل التزيني المُركب الذي أنجزه الحرفيين الفنيين بواجهة الكاتدرائية. المثال الأكثر نجاحًا – والفريد من نوعه في فرنسا – هو تلك “الستارة” الحجرية التي تجذب العين بأعلى واجهة الكاتدرائية، والمصنوعة من مجموعة من العيدان أو الرماح الحجرية على هيئة جمالون. أما الأجزاء أو النقوش الغائرة لأبواب الكاتدرائية الثلاثة، والتي يعلو كل منها جملون مزدوج، فمكرسة لتجسيد حياة المسيح.

 

بوابة المنتصف أو المركزية

هذا المدخل هو الأكبر والأكثر زخرفة وتزيينًا بين المداخل الثلاثة بهذه الواجهة. حيث يعلوه خمسة عقود قوسية أو أنصاف أقواس متقابلة يوجد بكل قوس منها تماثيل مصغرة للرسل المذكورين بالعهد القديم. وفي قلب هذه الأقواس الخمسة ثمة أربعة صفوف يسجل كل صف منها مشاهد دينية من العهد القديم والجديد وكذلك آلام المسيح. وتلك الأقواس وهذه الصفوف ترتفع فوق عمود مزخرف يقسم البوابة إلى نصفين، بأعلاه تمثال للعذراء تحمل طفلها، وثمة العديد من التماثيل الأخرى المتفاوتة الحجم على جانبي أعمدة المدخل بموازاة نهايتي القوس الكبير وداخل وأعلى الجمالون المزدوج للعذراء والمسيح والملك بيلاطيس والقاضي وغيرها من الشخصيات الدينية المعروفة.

 

البوابة اليسرى

زينت الأقواس الأربعة للبوابة الشمالية بتماثيل صغيرة مهيبة ترجع للقرن الرابع عشر وهي تصور الفضائل وهي تنزل الهزيمة بالرذائل، بالإضافة إلى مجموعة من الملائكة وشخصيات أخرى كثيرة من الكتاب المقدس. أما منطقة منتصف الأقواس فتسجل في ثلاثة صفوف ميلاد المسيح، والطفولة والهروب إلى مصر.

 

البوابة اليمنى

زينت الأقواس الأربعة للبوابة اليمنى بحكايات رمزية لمجموعة من العذراوات يمثلن الحكمة والحماقة. العذارى الحكيمات، تمسك كل واحدة منهن بمصباح في يدها وكتاب قانون مفتوح ويقف بجانبها زوج مثالي وقور. العذارى الحمقاوات، تمسك كل واحدة منهن بمصباح مقلوب رأسًا على عقب وكتاب قانون مغلق وبجانبهن شخص مغري يحمل تفاحة مغوية. أما في منطقة منتصف الأقواس فتسجل في ثلاثة صفوف يوم القيامة.

 

النافذة الوردية الكبيرة ورواق الملوك

فوق النقوش البارزة والغائرة للبوابة الرئيسية، أعلى الستارة الإبرية، نرى النافذة الوردية التي نفذها إرفين فون شتاينباخ، إذ تسترعى الانتباه بشدة وتشكل النقطة المركزية للواجهة. يبلغ قطر هذه النافذة 15م، وهي فريدة من نوعها لأنها خلافًا للتقليد القوطي، حيث من المفترض أن يوجد بمثل هذه النوافذ تكوينات مرسومة للقديسين، تحتوي على مجموعة من الأشعة المتفرعة على نحو دائري من زهرة بالمنتصف وبكل شعاع متفرع منها سنابل قمح، كرمز للقوة التجارية للمدينة في العصور الوسطى، وتتميز النافذة ببراعة ودقة التصميم وروعة الألوان البديعة في اختيارها وتدرجها وتألقها، خصوصًا مع سطوع الشمس ورؤيتها من داخل الكاتدرائية.

يعلو النافذة الوردية رواق صغير به مجموعة من التماثيل للعديد من الرسل غاية في الثراء والإتقان الحرفي وهي تميز الواجهة على نحو لافت. أثناء الثورة صدرت الأوامر بتدمير جميع التماثيل، وبالفعل جرى تدمير أكثر من 230 تمثالا، وكان من الممكن أن يكون العدد أكثر من هذا لولا أن المسئولين على الممتلكات العامة نجحوا في إخفاء 67 واحدًا منها. ويمكننا أن نرى في كوات رواقي الدور الأول والثاني مجموعة من تماثيل الفروسية لعشرين من الملوك، من كلوفيس الأول حتى لويس الرابع عشر. وليس غريبًا أن هذه التماثيل تحديدًا، كانت أول من طالتها ويلات الثورة والتدمير، قبل أن يتم إحلالها وتبديلها وترميمها في القرن التاسع عشر.

 

برج الكاتدرائية

يرجع تفرد الكاتدرائية ببرج وحيد للتصور غير المعتاد لها، والذي يعزى بدوره للعديد من التغيرات التي حدثت وأدخلت على التصور الأصلي الخاص ببناءها على مدار السنوات. وكانت هناك عدة خطط لمشاريع متباينة، وقد أنجز لهذا الغرض أربعة رسوم بيانية، يرجع تاريخ أقدمها لعام 1260 تقريبًا، ويعتبر من أقدم التصاميم المعمارية في العالم الغربي التي نجت وتم الحفاظ عليها، وكان لكاتدرائية ذات طابقين فقط وبرجين مستدقي الطرف. وكانت لمهندس الكاتدرائية الشهير إرفين فون شتاينباخ، وقد اختار شتاينباخ العمل على تنفيذ أحدها حتى وافته المنية.

بعد ذلك، واصل ماستر جيرلاخ العمل في الفترة من 1355 حتى 1365، وانتهى من المستوى الثالث الخاص ببرج الجرس. لكن، مع ذلك، تم التخلي عن بناء البرجين المستدقين، لعدة أسباب، كان من بينها تعرض المدينة عام 1349 لوباء الطاعون الذي نجم عنه خسائر بشرية هائلة وبالطبع صعوبات مالية بالمدينة، وكان من أهم هذه الأسباب أيضًا، تعرض بازل وغيرها من مدن الإلزاس عام 1356 لزلزال مدمر، الأمر الذي أضعف من حماس البنائين، وأصاب السكان بالصدمة وفتر حماسهم للمشروع.

ومع عام 1383، بعد وفاة جيرلاخ، تم تكليف أولريخ من إينسينجين، بمهمة إقامة شكل مثمن بارتفاع 34م لبرج الجرس عند قاعدة البرج الشمالية. كان البرج يشبه بغرابة ذلك الخاص بكاتدرائية أولم (الأطول في العالم)، وكان من تنفيذ أولريخ. وكان أولريخ قد خطط لوضع قمة فوق البرج عبارة عن برج مستدق صغير نسبيًا. لكن يوهانس هولتز من كولونيا، مستأنفًا مهمة الأعمال، غير المشروع تمامًا وأبدع برجًا مستدق الطرف شديد التعقيد والرشاقة.

كل واجهة من واجهات القاعدة المثمنة للبرج لديها سلسلة من ستة تدرجات قوسية صغيرة. وتلي هذه التدرجات، أخرى أكثر التواءًا ضمن أربعة ذرى ضخمة مركبة فوق الأركان الأربعة للبرج، وتمكن رؤيتها بوضوح من الخارج. ويبلغ ارتفاع القمة الطرفية المستدقة، 42 مترًا، ولم تكتمل إلا بعد فترة بعيدة، عام 1439.

في عدة مناسبات لاحقة، أثير موضوع تنفيذ البرج الثاني. وهكذا عام 1490، وضع المهندس المعماري هانز هامر تصميمه للبرج الثاني ذي الطرف المستدق، لكن لم يتم تنفيذه في النهاية. ربما كان هذا لأن سكان المدينة كانوا شديدي الفقر للإقدام على تنفيذه. ويعتقد بعض المتخصصين أن بناء البرج الثاني وتحميله فوق بناء الكاتدرائية القائم على أرض موحلة، كما ذكرنا، ممكن أن يؤدي لزعزعة البناء، وإلحاق أضرار خطيرة به. وفي وقت لاحق من القرن 19، راودت المهندسين الألمان فكرة تنفيذ برج ثاني، لكن لم يلق طرح الفكرة أي نجاح، وكان الاستراسبورجيين قد ترسخ لديهم بالفعل فكرة وشكل الكاتدرائية ذات البرج الواحد، واعتبروه رمزًا لتحرر المدينة واستقلالها الخاص كجمهورية في العصور الوسطى.

 

بانورامية الشرفة والمستويات المتعدد لبرج الجرس

المستوى الأول، على ارتفاع 66م، متاح لمن يجرؤ من عامة الجمهور على صعود درجاته الـ 330. رؤية ستراسبورج مذهلة من هذا الارتفاع وبالإمكان في الأيام الصافية رؤية سهول الراين والألزاس، وجبال فوج والغابة السوداء. أما المستوى الثاني، الخاص بالبرج الكبير، فهو على ارتفاع 100م. وهنا ينتهي البرج وتبدأ القمة المستدقة الطرف.

عند هذا المستوى يمكن الاستمتاع برؤية مجموعة من الأجراس المتألقة، التي يقال إن لها أروع الدقات بين كاتدرائيات وكنائس فرنسا، ووفقًا للخبراء، تعد واحدة من أفضل مجموعات الأجراس بأوروبا. أما بالنسبة لأكبر الأجراس باستراسبورج وكاتدرائيتها، فمكانه ليس هنا ببرج الأجراس، بل فوق النافذة الوردية بالواجهة. ويرجع تاريخ سبكه لعام 1427، ويزن قرابة 9 أطنان.

على ارتفاع 132م، نصل إلى آخر مستوى بالقمة الطرفية المستدقة، وبعدها تبدأ الذروة العلوية التي تزين طرفه المدبب. وهي لا تستوعب سوى عشرة أشخاص فحسب. وعلى ارتفاع 136، تنتهي الذروة المسدسة الصغيرة والنهائية لبرج الكاتدرائية بالكامل. ونادرًا ما يمسح بصعودها للزوار العاديين.

 

البوابة الجانبية الجنوبية للجناح

البوابة الجانبية الجنوبية للجناح واحدة من أقدم الأجزاء الظاهرة من الطراز الرومانسي القديم بالكاتدرائية. وهي محاطة بثلاثة تماثيل تصور من جهة اليسار إلى اليمين: كنيسة صغيرة، ثم الملك سليمان، ثم كنيس يهودي. كذلك نرى عملين من النحت الرومانسي الغائر، يصوران رقاد المسيح وتتويج العذراء.

 

البوابة الجانبية الشمالية للجناح

تنتمي البوابة الجانبية الشمالية للجناح إلى مرحلة متأخرة من الطراز القوطي الفلمنكي، وهي أكثر حداثة من البوابة الجنوبية. وقد انتهى تنفيذها عام 1505، وأنجزها المعماري ياكوب فون لاندشوت والنحات هانز فون من آخن، وكانت مهداة للقديس سان لوران وتروي قصة استشهاده.

 

الكاتدرائية من الداخل

يتسم داخل الكاتدرائية بالمهابة والانسيابية والتقشف والجمال، كذلك صحنها، الذي يبلغ طول 63م، ويعتبر الأطول بفرنسا.

 

صحن الكاتدرائية

يرتفع سقف صحن الكاتدرائية فوق مجموعة سباعية من الأقواس الضخمة المزدوجة على كلا الجانبين، وتبلغ المساحة الفاصلة بين عمودي المجموعة السباعية 36م، ويعلو أقواس تلك الأعمدة أربع مشربيات زجاجية صغيرة ملونة قوسية القمة، وتلك يعلوها النوافذة الزجاجية الكبيرة للكاتدرائية، ويبلغ ارتفاع الصحن 32م. أما السقف فتميزه الدعامات الشعاعية المتقاطعة التى نراها بأسقف جميع الكاتدرائيات القوطية.

 

النوافذ الزجاجية الملونة

تحتوي الكاتدرائية على مجموعة ثرية من النوافذ الزجاجية الملونة، بها أكثر من 4600 لوحة ورسمة، ويرجع تاريخ تنفيذها للقرون 12 و13 و14. في الجانب الشمالي، تصور النوافذ مختلف أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، القرن 13. وأما بقية النوافذ فتصور أسلاف المسيح ومشاهد من العهد الجديد لحياة العذراء والمسيح، بالإضافة إلى حياة القديسين. ودور النوافذة الزجاجية الملونة هو المساعدة في توضيح القصص التي كان يلقيها الوعاظ من منابرهم لأولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، الأمر الذي سهل على الكثير من العامة التعرف على هذه القصص وحفظ شخصياتها.

 

منبر جيلر من كايسيربيرج

ثمة قوسين من أقواس صحن الكنيسة بالجهة الجنوبية يحتضنان منبر سداسي رائع قوطي الطراز، يميزه وجود قرابة خمسين من التماثيل النحتية الصغيرة. هذا المنبر الذي صنعه هانز هامر، للخطيب أو الواعظ جيلر من كايسيربيرج، ولم يعد مستخدمًا الآن، عمل شديد التميز والتعقيد سواء من حيث النقوش أو تماثيله النحتية المصغرة البالغة الروعة.

 

جناح الكاتدرائية

بالجهة الجنوبية لجناح الكاتدرائية ثمة عنصران ملحوظان على وجه الخصوص: عمود الملائكة والساعة الفلكية:

عمود الملائكة

يبرز هذا العمود براعة الهندسة المعمارية في فترة بنائه عام 1230 تقريبًا، ويعتبر بمثابة العمود الأساسي أو المركز الداعم للجناح الجنوبي. وهو يضم 12 عملا نحتيًا، مقسمة على ثلاثة مستويات: واحد منها به أربعة من المبشرين، وبالآخر أربعة ملائكة يعزفون في أبواق مختلفة، وبالمستوى الأخير تمثال للمسيح وحوله ثلاثة ملائكة في رمز ليوم الحساب. وفي نفس هذه المساحة، ثمة تمثال لرجل يريح مرفقيه على الدرابزين الساعة الفلكية. وتقول الأسطورة إن هذا الرجل هو المهندس المعماري المنافس للمهندس الذي بنى عمود الملائكة، والذي ادعى واحتج بأن عمود واحد لا يستطيع أبدًا أن يحمل أو يدعم قباب كبيرة كهذه، وأنه يقف بانتظار أن يرى البناء ينهار ويتداعى.

 

الساعة الفلكية

بالجناح الجنوبي نجد أيضًا الساعة الفلكية بطول 18م، وهي من أكبر الساعات في العالم. وكانت الساعة السابقة عليها تسمى ساعة الملوك الثلاثة، وصنعت في الفترة بين 1352 – 1354. ثم في بداية عام 1547، بنيت ساعة جديدة بواسطة كريستيان هرلين، وآخرين، لكن العمل توقف لأسباب عديدة ولم يستأنف إلا عام 1571، بواسطة كونراد داسيبوديوس والأخوين هابريخت، وكانت فلكية أكثر. وظلت الساعة تعمل حتى أواخر القرن الثامن عشر، تحديدًا عام 1788، وبقيت متوقفة ومتعطلة حتى عام 1838، عندما عهد بإصلاحها إلى الألزاسي جان باتيست شفيلجو، هذا الرجل الذي علم نفسه بنفسه وكان مصلح ساعات، وأصبح في سن الحادية والستين أستاذًا للرياضيات والأوزان والمقاييس، وكرس نفسه وموهبته لإصلاح الساعة وتجويد آلياتها المعقدة منذ طفولته. فعلى مدار ثلاثين عامًا راح يدرس آلية الساعة ومحاولة إماطة اللثام عن سبب تعطلها. وقد نجح بالفعل في إعادة صياغتة آليتها مرة ثانية. هذه الآلية، التي لا يعرف أين توجد أو المكان الذي أودعها فيه، يمكنها حساب عيد الفصح وفقًا للتقويم الجريجوري الصعب والمعقد. وقد تم الانتهاء من الساعة عام 1842، ومن الكرة السماوية عام 1843، في نفس الخزانة الخاصة بالساعة السابقة، ومنذ عام 1842، وحتى يومنا هذا والساعة تعمل بمنتهى الدقة مبينية الوقت والتقويمات المدنية والدينية.

الجزء الفلكي من الساعة متناهي الدقة على نحو مذهل، حيث يشير إلى التقويم الشمسي، والشهور، والسنوات، والسنوات الكبيسة، والاعتدال، والأبراج، ومراحل القمر، وموضع العديد من الكواكب، وغيرها الكثير من المعلومات الفلكية المعقدة. أما أيام الأسبوع فتشير إليها مجموعة من الآلهة الراكبة عربات أو مركبات: الأحد (أبولو)، الاثنين (ديانا)، الثلاثاء (مارس)، الأربعاء (ميركوري)، الخميس (جوبيتر)، الجمعة (فينوس)، السبت (ساتورن). وهي بالفعل تعتبر إلى حد كبير آلة حاسبة أكثر من كونها مجرد ساعة. لدرجة يقال معها أن من يرغب في ترصد الساعة ودراستها لا بد أن يكون عالمًا متخصصًا ومتبحرًا في الرياضيات المعقدة أو المركبة، وليس مجرد تقني فحسب. والساعة قادرة على تحديد كل هذا قبل فترة لم تكن توجد فيها كمبيوترات. لكن الزائرين والسائحين لا يرون شيئًا من تعقيداتها الكثيرة ولا حتى ميكانيكيتها. كل ما يرونه هو الشكل الخارجي للساعة وأصواتها، والشخصيات المتحركة التي تبدأ حركتها اليومية، بعد تمام الثانية عشر والنصف. إذ يرون بالمستوى الأول منها أحد الملائكة يطلق الجرس، وآخر يدير ساعة رملية. وفي المستوى الثاني شخصيات أخرى، تمثل مراحل الحياة، من الطفولة للشيخوخة، في موكب يمر أمام ملك الموت. وفي المستوى الأخير هناك الرسل، يمرون أمام المسيح.

أشرف على رعاية وصيانة هذه الساعة، من عام 1858 وحتى عام 1989، شركة أونجيرر، وقد تأسست عام 1858 بواسطة شقيقين كانا مساعدين لجان باتيست، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم الحالي يشرف عليها ألفريد فولوميل الذي كان يعمل بالشركة، إلى أن أسندت المهمة الآن إلى ابنه من جانب الكاتدرائية التي وظفته لهذه المهمة، حيث يجري لها صيانة دورية أسبوعية كل يوم اثنين. جدير بالذكر أن ثمة عدة ساعات أخرى بمتاحف العالم تحاكي ساعة ستراسبورج الفريدة من نوعها، لكنها أقل وأبسط منها من حيث التركيب والتعقيد.

 

المذبح

يتميز مذبح الكاتدرائية بارتفاعه الملحوظ فوق سطح الأرض مقارنة بمستوى سطح الصحن والأجناب، لأنه يرتفع فوق القبو. ينتمي المذبح إلى الطراز الرومانسي. قبته مزينة بفسيفساء بيزنطية ترجع للقرن التاسع عشر. وهو في جهة الشرق، حيث القدس، وفقًا لتقليد بناء الكاتدرائيات في العصور الوسطى.

النافذة الزجاجية الملونة في منتصف المذبح معاصرة، تبرّع بها المجلس الأوروبي عام 1956، لتحل محل القديمة التي دمرت في الحرب العالمية الثانية. وهي تصور العذراء مرتدية ثوب أزرق اللون. يجلس في حجرها الطفل يسوع بلباس أحمر، رمز الملكية، ويحمل في يده زنابق، رمز مدينة ستراسبورج. الجزء العلوي من النافذة ذات الزجاج الملون بها علم الاتحاد الأوروبي: 12 نجمة ذهبية على خلفية زرقاء لازوردية. وفي قلب المذبح 12 تمثالا نصفيًا، تصوِّر الرسل.

 

المنحوتات المجسمة

على الجانب الشمالي لمذبح الكاتدرائية، ثمة ركن خاص مميز بالكاتدرائية، لمجموعة من المنحوتات المُجسمة بالحجم الطبيعي تصور مشهدًا بانوراميًا تاريخيًا يحمل عنوان المسيح على جبل الزيتون، يرجع تاريخ تنفيذها لعام 1498. واللافت في الأمر أنها مظلمة طوال الوقت، ولا تضاء بشكل كامل لترى تفاصيلها المشهدية الدقيقة إلا بعض وضع يورو بمكان معين، فتنار لدقائق قليلة للاستمتاع بها والتقاط الصور ثم تطفأ ثانية.

 

الأرغن

يرجع تاريخ وجود الأورغن بالكاتدرائية لفترة مبكرة من عام 1260، وكان بسيط التصميم والحجم. وكانت هناك آلتين أخريين ترجعان لعامي 1291 و1327. أما جهاز الأرغن الحالي، الموجود بالجناح الشمالي للكاتدرائية، فيرجع تاريخه للفترة بين 1714 – 1716، وهو من إبداع وتنفيذ أندرياس سلبرمان، الذي نجح في تنفيذ الجهاز بداخل خزانة أو دولاب الأورغن القديم الذي يرجع للقرن الرابع عشر، وقد تم تجديد أنابيب الأورغن عام 1878.

 

القبو

يقع مكانه تحت المذبح، وهو عبارة عن سرداب كبير بعض الشيء، يشبه ذلك الموجود بكاتدرائية برلين والعديد من الكاتدرائيات القوطية، وهو أقدم جزء بالمبنى كما قلنا، حيث أنه عبارة عن بقايا الكاتدرائية القديمة التي أقامها فيرنر من هابسبورج في القرن 11. ويحتوي القبو على مجموعة من السراديب والأقبية الصغيرة الخاصة بأضرحة أساقفة ستراسبورج. ويحمل سقف السرداب مجموعة من الأعمدة والركائز، المنحوتة رؤوسها بموتيفات زخرفية نباتية وحيوانية رائعة.

 

قالوا عن الكاتدرائية

ألهم جمال الكاتدرائية الكثير من المشاهير على مدى التاريخ، وهذه بعض الانطباعات:

ستاندال: “قبو كاتدرائية ستراسبورج من أكثر المعالم اللافتة التي رأيتها في حياتي”.

جوته: “كلما تأملت واجهة الكاتدرائية، اقتنعت أكثر بأن انطباعي الأول عن شموخها مرتبط بجمالها”.

هوجو: “بوابات الكاتدرائية جميلة، خصوصًا البوابة الرومانية، ثمة شخصيات بديعة حقًا فوق ظهر الخيول، النافذة الوردية نبيلة ورائعة النحت والتزيين، وواجهة الكاتدرائية بالكامل عبارة عن قصيدة رائعة. لكن الانتصار الحقيقي لهذه الكاتدرائية هو برجها المستدق. إنه تاج حقيقي من الحجر بقمته وصليبه. إنها أعجوبة عملاقة ودقيقة. الرؤية بديعة من برج الجرس.. ستراسبورج ممتدة تحت قدميك، المدينة القديمة مبلطة بالقرميد الجمالوني لأسطح المباني والمنازل… عن نفسي، سأنتقل من جهة لأخرى بالقمة، وأنا أستمتع برؤية شعاع واحد للشمس يسقط على فرنسا، وألمانيا، وسويسرا”.

بول كلوديل: “في قلب المركز التاريخي لستراسبورج، تشبه كاتدرائية نوتر دام البديعة، ملاك أحمر وردي يحوم فوق المدينة”.