محمد هاشم عبد السلام

بعد توقّف طويل عن الإخراج عقب إنجاز تحفته السينمائية “روما” (2018)، ألقى المكسيكي ألفونسو كوارون بثقله السينمائي في مغامرة درامية غير سينمائية: مسلسل بسبع حلقات، عنوانه إخلاء المسؤولية. التوقّف الطويل نفسه حاصل مع الإخراج التلفزيوني أيضاً، فكوارون ليس من المخرجين السينمائيين الوافدين إلى المسلسلات. أخرج سابقاً حلقات منفردة (أي حلقة واحدة في موسم أو مسلسل) أو مُسلسلة، أغلبها بلغته الأم.
في “إخلاء المسؤولية” أو “Disclaimer” (تعرضه “أبل بلس” بدءًا من 10 أكتوبر/تشرين الأول 2024 أسبوعياً لغاية مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المقبل)، يُضاعف ألفونسو كوارون مُغامرته، باقتباسه رواية بريطانية، وتقديم مسلسل بلغة غير لغته، وإدارته ممثلين وممثلات لم يعملوا في المسلسلات، منذ مدة أو إطلاقاً.
المسلسل، المعروض كاملا في “مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي” في دورته الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) مقتبس عن رواية بالعنوان نفسه، كتبتها رينيه نايت، وباتت الأكثر مبيعاً عام 2015. قبل المشهد الافتتاحي للعمل، يُحذّر كوارون عمداً من خطورة السرد والشكل. التحذير واردٌ ضمناً في سياق تكريم ومدح اشتغال المخرجة الوثائقية الشهيرة كاثرين رافنسكروفت (كيت بلانشيت)، لا يتّضح معناه ولا يُفهم مغزاه كاملاً إلا بين منتصف الحلقة السادسة وبداية السابعة، عندما تكشف الوقائع المثيرة عن حقيقة ما جرى، وليس ما تمّ تخيّله وافتراض وقوعه في الحلقات السابقة. ثم يتّضح مدى قوّة وخطورة السرد والشكل المُصاغ بها، وكيف يُمكنهما تقريب المُشاهد من الحقيقة أو تضليله، كأنّهما سلاح له قوة كبيرة في التلاعب والخداع والتدمير.

تنحصر الأحداث بين كاثرين وخصمها ستيفن بريجستوك (كيفين كلاين)، الذي يكتشف صدفة سرّ نانسي (ليزلي مانفيل)، زوجته الراحلة قبل سنوات. ومعه، يكتشف سبب خسارتهما الفاجعة ابنهما الوحيد جوناثان (لويس بارتريدج): يقرأ مخطوطة “الغريب المثالي” التي كتبتها نانسي عن الرحلة الأخيرة لابنهما إلى إيطاليا، وأسباب وفاته. ينشر ستيفن المخطوطة باسمه، ويشرع في توزيع الكتيّب. يرسله أولاً إلى كاثرين، ثم إلى زوجها روبرت (ساشا بارون كُوِهين) وابنهما العشريني نيكولاس (كودي سْميث ـ ماكفي)، ليُدمّر حياتها الأسرية، كما دمّرت أسرته، وليدمر حياتها المهنية، محاولاً الانتقام منها بالتخلّص من ابنها.
يكشف الكتاب تفاصيل حميمة لعطلة كاثرين على شاطئ بحر في إيطاليا، عند بلوغ ابنها خمسة أعوام، قبل أنْ يتركهما روبرت عائداً إلى لندن بسبب العمل. وفقاً للكتاب، أغوت الفاتنة كاثرين، في شبابها (دور جريء جدًا للجميلة لِيْلا جورج) ابنهما المراهق المُثير للغاية.
يُعرف سبب الانتقام المتأخر لاحقاً، مع التقدّم في السرد، والعودة المتكرّرة إلى الماضي، في سلسلةٍ بدت لانهائية، أي “فلاش باك” عقيم ومُكرّر أحياناً، ومُفيد ومُشوّق أحياناً أخرى. ثم تُثار تساؤلات، ويثور الجميع على كاثرين الأم المُهملة واللعوب والخائنة والمغوية، والمجرمة القاتلة: هل غرّرت كاثرين، قبل 20 عاماً، بجوناثان؟ هل أنقذ جوناثان طفلها من الغرق؟ هل تعمّدت ترك جوناثان يغرق؟… إلخ، هذا دافع إلى إعادة تقييم كلّ شيء، منذ البداية. التحدّي الأكبر صبر الجمهور حتى نهاية الحلقتين الثانية والثالثة. إنْ صمدوا، فلن يشعروا بانقضاء الأحداث المتلاحقة والمشوّقة حتى اقتراب نهاية الحلقة الأخيرة من مسلسل يقوم، أساساً، على عدم اليقين.
ينجح ألفونسو كوارون، إلى حدّ كبير، في الحفاظ على التشويق في الحلقات، بفضل جماليات التصوير، وروعة المشاهد، وحسن اختيار الممثلين والممثلات، وجودة الأداء. بالنسبة إلى بعضهم، ربما تكون آليات السرد آسرةً، وإلى آخرين سطحية. حاول كوارون توظيف سرد غير نمطي بعض الشيء، والتعمّق قدر المستطاع في الزوايا والشقوق النفسية للشخصيات الرئيسية، ليُكسبها أعماقاً وأبعاداً وانحرافات وتشوّهات نفسية تُضيف إليها.

من يتوقّع أنْ يكون المسلسل شديد الأصالة والإبداع والجدّة، سيخيب ظنه. مع ذلك، إنْ أراد قصة مقنعة ومزعجة ومشوّقة، تنطوي على عمقٍ وتسلية وإثارة عن مدى صدق افتراضاتنا وتحيّزاتنا المتحكّمة في رؤيتنا الحقيقة، ودراما سوء الفهم، وميل البشر إلى قبول وتصديق رؤيتهم وروايتهم للأشياء باعتبارها حقيقة، فالعمل جيّد وممتع، ولو اقترب للحظات من الميلودراما والكليشيهات أحياناً، وسطحية الحوار بعض الشيء. لكنّه موسوم بسلاسة وسهولة متابعة لِسِتّ ساعات.
بعيداً عن الدراما واختيار فريق التمثيل، أهمّ جماليات المسلسل تتمثّل في روعة تصوير المُحترفين إيمانويل لوبيزكي وبرونو ديلبونيل، وبراعة استغلالهما وتوظيفهما البديع للإضاءة، إلى جانب روعة المناظر وجمال الديكورات الداخلية، والحضور الدائم للقطات مُطوّلة وتصوير في العمق، وفنّيات وجماليات اشتهر بها كوارون، وتعمّد جَلْبها من السينما.

كيت بلانشيت في لقطة من المسلسل

هناك عيوب مزعجة تُفسد السياق والمشاهدة أحياناً: إكثار التعليق الصوتي، واعتماد الـ”فلاش باك” أكثر من اللازم، بأساليب كلاسيكية مباشرة، ومن دون أيّ تجديد؛ وأيضاً انصياع لطبيعة المسلسلات. لم يستطع كوارون التخلّص كلّياً من الاستعارات الشائعة في هذا الوسيط، ما أفرز مَشاهد قديمة وعادية. ينطبق هذا على السرد، فرغم أنّ “إخلاء المسؤولية” مصنوعٌ بروعة، بمستويات عدّة، أخفق سرده الأساسي في الهروب من حدود نوعه. ورغم موهبة كوارون، وما بذله من جنوح إلى فنّيات السينما وجمالياتها، بدا شبيهاً جداً بمسلسلات أخرى، وأفلام مبنيّة على الإثارة المعتادة التقليدية. ربما مردّ ذلك إلى طبيعة رواية الإثارة المُقتبس منها المسلسل.

الممثلة ليلا جورج في لقطة من المسلسل

بالنسبة إلى التجربة إجمالاً، يُطرح التساؤل مُجدّداً عن أثر المسلسلات التلفزيونية، وسيطرة شبكات البثّ، المتطلّبة هذا النوع من الأعمال، على السينما، وعلى المخرجين الموهوبين، لا سيما على المدى الطويل. بمشاهدة هذا المسلسل وغيره، يمكن القول إنّ السينما خسرت جهود كوارون واستنزفته في عمل كهذا. صحيحٌ أنّ الجماليات والفنّيات والصُنعة السينمائية موجودة، بل طاغية أحياناً؛ لكنْ، ببساطة، بوسع أيّ مخرج إنجاز العمل بحِرفية، ولا يتغيّر الكثير. ولو أتيحت الفرصة، لاختار اختصار حشو وتكرار، مَطلُوبَين لملء الساعات اللازمة للبث التلفزيوني، ولأنجز العمل بإتقان وحِرفية وفنّية في ساعتين أو ثلاث.
هذه إحدى المخاطر التي يشكّلها اضطرار مخرجين سينمائيين، خاصة الموهوبين والمخضرمين، إلى العمل تحت ضغط هذا الوسيط/الشبكات، وشروطه وفنّياته ومتطلباته، وما يوفّره من إغراءات لا تتيحها السينما.
في النهاية، لن يكون كوارون وموهبته أول المتضرّرين، ولا آخر من تفتقدهم أو تخسرهم السينما. ورغم أنّ بعضهم جَرّب المغامرة في هذا الوسيط، مرة أو أكثر، وحقّق صموداً وتوازناً، كُتِب لقلّة النجاح. أبرز من يستحقّون التأمّل في اشتغالاتهم في الوسيطين: راينر فيرنر فاسبندر وجين كامبيون وباولو سورينتينو وستيفن سوديربيرغ، والأبرز والأنجح ديفيد لينش.