محمد هاشم عبد السلام
في فيلمه الوثائقي الأول، “لقد حلّ الليل” (Vino La Noche)، يرصد المخرج والمصور البيروفي “باولو تيزون” التدريبات القتالية الشرسة لشباب إحدى فرق القوات الخاصة في الجيش البيروفي، بغية تحويلهم إلى محاربين أشاوس، يخوضون معارك ضارية في مناطق عالية الخطر، قد لا يعودون منها أبدا.
ومن خلال موضوعه الشائك المحمّل بكثير من العنف والخشونة والقوة، يحاول المخرج تقديم صورة إنسانية طبيعية تقرّبنا من هؤلاء الشباب اليافعين، وفي الوقت نفسه يعمل بذكاء ومهارة وفنية على رصد بعض الثنائيات الإنسانية، مثل الرهافة في مقابل العنف، والقوة مقابل الضعف، والخوف مقابل الإقدام، والتحدي مقابل الاستسلام.
وادي الكوكايين.. تدريبات عنيفة لمواجهة عملاق المخدرات
بغتةً يدخلنا مخرج الفيلم إلى عالم جنود إحدى فرق القوات الخاصة البيروفية، الذين سينطلقون قريبا فور انتهاء تدريباتهم، للقتال في منطقة يطلق عليها وادي الكوكايين، وهي منطقة سيئة السمعة جدا، وتعدّ أكبر منطقة منتجة للكوكايين في البيرو.
ومن المعروف أن البيرو تأتي في المركز الثاني بعد كولومبيا في زراعة وإنتاج الكوكايين، ومنطقة وادي الكوكايين هذه تقع فيها معظم عمليات زراعة المخدرات والاتجار بها. وبناء على هذا، فإن هذه المنطقة بحاجة دائمة وماسة للتدخل العسكري الثقيل والحاسم ضد العصابات المسلحة المسيطرة والمتحكمة فيها.
ومن نافلة القول، قولنا إن التعامل مع هذه العصابات يجب أن يكون بالغ الدقة القوة والعنف والاحتراف، وينبغي للقوات المنوطة بهذه المهام أن تكون على أكبر قدر من المهارة والاستعداد والبأس. وهذا هو السبب الرئيس في نوعية التدريبات العنيفة، لا سيما تدريبات التحمّل التي نرى هؤلاء الشباب يحاولون إتقانها.
تفوق الفيلم.. أسئلة التميز في ميدان المنافسة
حصل فيلم “لقد حلّ الليل” على “جائزة لجنة التحكيم الخاصة”، ومكافأة مادية قدرها 10 آلاف دولار أمريكي، وجائزة “الفيبريسي” أو الاتحاد الدولي لكتاب السينما، وبذا تفوّق الفيلم على أكثر من 10 أفلام روائية طويلة ووثائقية، لا تقل أهمية وفنية وفرادة معالجة عنه، وذلك بعد عرضه العالمي الأول ضمن فعاليات الدورة الـ58 لمهرجان “كارلوفي فاري السينمائي الدولي” 2024، وتحديدا في مسابقة قسم “بروكسيما”، وهي مخصّصة لعرض الأفلام الأولى أو الثانية للمخرجين والمخرجات الشباب، وتتّسم أفلامها بالتجريب والتجريد والتجديد على مستوى الشكل والمضمون والمعالجة.
يثير ذلك التميز أسئلة كثيرة عن الجديد الذي جاء به المخرج الشاب “باولو تيزون” (مواليد 1995)، على مستوى الموضوع أو الطرح أو التناول أو المعالجة السينمائية، كي يُجمع أعضاء من لجنتي تحكيم منفصلتين على منحه جائزتين رفيعتين؟
لا شك أن هناك ما هو جديد ومغاير في الفيلم، وفي طريقة التناول، وفي كيفية المعالجة، لكن من حيث التشويق والإثارة والمتعة، فثمة علامات استفهام كثيرة، لا سيما لدى المشاهد العادي.
قبل هذا، نتساءل أيضا -من غير تشكيك- هل أخلص الفيلم حقا للسينما الوثائقية الجادة الرفيعة الفنية؟ أم أنه دعاية زائفة تعمل على تلميع صورة الجيش البيروفي، أو إحدى فرقه العسكرية التي من صميم مهامها القيام بأعمال الحماية والدفاع والقتال وغيرها؟
مساعدة الجيش.. رهان النأي عن سينما الدعاية الفجة
من الناحية الفنية، يبتعد الفيلم كثيرا عن كونه دعاية، مقارنةً بكثير من الوثائقيات المصنوعة والمدرجة تحت هذه النوعية من الوثائقيات، فالفيلم شديد الفنية والسينمائية، لا يتسم بالمبالغة أو التفخيم أو التمجيد، بل ربما يكون بمثابة دعاية مضادة، إذ يتضح فيما بعد أن من ينضم إلى فرقة كهذه، ويخوض مثل هذه التدريبات، ويواجه مصيرا مجهولا، قطعا ليس ذاهبا إلى نزهة.
من ناحية أخرى، ينصب تركيز المخرج الأساسي على رصد الإنساني المشترك بين هؤلاء الشباب -أو بالأحرى المراهقين- المختارين للمضي على هذا الدرب الوعر، فالأمر ليس مدعاة لتميز أو وجاهة أو سلطة أو غيرها، فالجميع يعلم أن النهاية ليست سوى الموت في ساحة القتال.
يضاف إلى هذا أيضا أن ليست ثمة جهة عسكرية أو حربية أو سيادية مساهمة في إنتاج الفيلم، وإلا لما واجه كل تلك الصعاب التمويلية، والعثرات التي كادت تجهض تنفيذه.
في الوقت نفسه، ثمة بعض العون والمساعدة من المؤسسة العسكرية دون شك، وإن بشكل غير مباشر أو فج، فمثل هذه الأفلام لا تصنع هكذا، أي بناء على فكر ورغبة وإرادة المخرج وطاقمه الفني المعاون، لا سيما وقد استغرق التصوير أكثر من 10 أشهر، قضاها المخرج وطاقمه الصغير مع هذه الفرقة، ملازما لها ليل نهار في الثكنة، وأثناء التدريبات الشاقة في الحقول والجبال، وحتى في الطائرة الحربية، قبل وبعد القفز منها بالمظلات.
وهذا ما نراه في المشهد الافتتاحي البالغ القوة والجمال والتأثير، والمصحوب بصوت محركات الطائرة المصمّة للآذان، قبل أن يطبق السكون، ويتمدّد الفتية على الأرض بجوار مظلاتهم دقائق نظنها أبدية. وذلك قبل أن نعود -فيما يشبه لقطة استرجاعية غير ملحوظة- لنشاهدهم أثناء عمليات الفحص والكشف المعتادة لأوزانهم وأطوالهم، واختبار عظامهم وعضلاتهم ومرافقهم، قبل اختيارهم في الفرقة الخاصة هذه.
صداقة المجندين.. لمسات إنسانية تكسر حدة الفيلم
على مدار الفيلم، تلتقط كاميرا المخرج والمصور “باولو تيزون” لقطات مقرّبة ومتوسطة لهؤلاء الشباب، أثناء القيام بعمليات إنزال جوي بالمظلات، وتدريبات رمي القنابل اليدوية، ومحاكاة القتال في الأحراش والأدغال، وإنقاذ الجرحى وإسعافهم طبيا، وغيرها من التدريبات والمناورات الليلية القاسية.
وأحيانا، يمكن أن تكون المشاهدة مرهقة حقا، ومن المزعج رؤية الإجهاد والضعف والندم على الاختيار ضمن هذه الفرقة، باديا على هؤلاء المراهقين.
كما أن تكرار مشاهدة التدريبات العسكرية المتلاحقة، دون مساحات كافية لالتقاط الأنفاس، يمكن أن يجعل الفيلم مملا، أو يزيد من الألفة والرغبة في المشاهدة. تلك الجرعة الزائدة تجعل الفيلم عرضة لخطر النفور والملل، وحتى العزوف عن استكماله، أو أنه على قدر كبير من التشويق والإثارة والمتعة.
يأتي التوازن من رؤيتنا للجانب الآخر لما نراه أمامنا من قسوة وخشونة وأنفاس مقطوعة، أي الجانب الإنساني الذي يتجلى في رؤية الشباب معا خلال أوقات الراحة والتقاط الأنفاس أو قبيل النوم مثلا.
في هذه اللقطات، يسود الهدوء والحميمية والإنسانية بين هؤلاء اليافعين، تحضر الكاميرا بينهم دائما، ويبدو أن المخرج قد راكم معهم بمرور الوقت علاقة صداقة وألفة، سمحت لهم بالانفتاح، ومزيد من الأريحية لمناقشة ما هو شخصي أو خاص أو غير متوقع.
مثلا، يعترف أحدهم بمدى قربه من والدته، وأنه لا يزال أحيانا يصعد إلى السرير لينام بجوارها في الليل. ويعترف آخر بوجود مشاكل في علاقته مع والده قبل التجنيد.
وفي أحد المشاهد، يسدي أكثر من شخص النصح لزميل حول أفضل طريقة للرد على خليلته السابقة التي راسلته للتو. وفي لقطات أخرى متكررة، نرى المجند صاحب الخوذة رقم 57 في سلسلة مكالمات مستمرة مع أمه، وهي تخبره بمدى انزعاج أبيه من أنه لا يتصل به.
كل هذا يعني أننا عندما نشاهد هؤلاء الشباب وهم مغمورون في المياه المتجمدة، أو يجبرون على الغطس تحت سطحها لأطول وقت ممكن في حلكة الليل، لإتقان تدريبات التنفس والتحمّل والتخفي، فإننا لا نشاهد كتلة متجانسة من المراهقين المجندين ضمن هذه المجموعة.
ملازمة الفرقة.. عدسة تتماهى مع التدريب والمعيشة
مع كاميرته، يحضر المخرج مع المجندين دائما في كل مكان، بداية من الحمّامات عند حلاقة الشعر، وبين الأسرّة قبيل النوم، حيث الدردشات الحميمية الدافئة الساخرة الكاشفة عن حياتهم وأفكارهم وأدق مشاعرهم، وخلال فترات الراحة بين التدريبات المهلكة.
المثير في الأمر أن حضور المخرج بكاميراته ليس عاديا، بل نكاد نعد أنفاس الشباب ونشم رائحتهم ونلمس بشرتهم، ونسمع ضربات أفئدتهم المتسارعة، لفرط التصاق الكاميرا بهم. ومع هذا يحبس المخرج نفسه بهدوء في الخلفية على امتداد الفيلم، فلا نكاد نشعر بأن ثمة كاميرا تتحرك هنا وهناك برشاقة، ممسكة بلقطات قريبة أو متوسطة القرب في الأغلب، إلا في بعض المواقف القليلة التي نسمع فيها صوت المخرج عرَضا.
توسطة القرب في الأغلب، إلا في بعض المواقف القليلة التي نسمع فيها صوت المخرج عرَضا.
وقد اختار المخرج عمدا أن لا يلفت انتباهنا إلى أفراد بعينهم دون غيرهم، أو التركيز مع شخص دون البقية، فغالبا ما نرى الشباب معا في هيئة مجموعة، أثناء تفاعلهم أو حديثهم أو خضوعهم للتدريبات، وحتى عند الاقتراب من بعضهم إنسانيا.
فهذه النماذج البشرية المجسدة للتوازن الإنساني والنفسي والعاطفي في الفيلم، لا نعرف عنها إلا الأرقام المكتوبة على الخوذات والبزات، فما من أسماء تذكر أو نعوت ينادون بها أثناء التدريبات أو بين بعضهم في أوقات الراحة، لكن يسود اللون الواحد، لون البزة العسكرية والأرقام الرسمية، والحلاقة المتساوية، وبنية الجسم المتماثلة تقريبا.
في المقابل، تعمد المخرج إبقاء القادة خارج الشاشة على امتداد الفيلم، مع أننا نسمع أصواتهم وصراخهم بالأوامر الصادرة والشتائم والسباب والوعيد، وكذلك مطالبتهم للشباب بالاستبسال، وحثّهم على ضرورة اليقظة التامة والمباغتة والعنف والمناورة، وإلا فالهلاك مصيرهم.
لعبة الضوء والظلام.. مناورة فنية تصنع حبكة الفيلم
مما يُلاحَظ على الفيلم مدى التقشف الفني في التنفيذ، ويبرز في غلبة التصوير الخارجي واستغلال الطبيعة، وعدم اللجوء إلى الإضاءة المصطنعة أو التصوير الداخلي إلا نادرا.
يصف العنوان “لقد حلّ الليل”، هبوط الليل الحالك وسيادته خلال الجزء الأخير من الفيلم، محوّلا الضوء الساطع القوي أو الناعم أو الضبابي في مشاهد النهار الخارجية خلال التدريبات إلى حلكة أقرب إلى الظلام الدامس الكابوسي، فلا نكاد نتبين أي شيء خلال عدة دقائق بدت لفرط امتدادها أنها لا نهاية لها، وتأتي الإضاءة الوحيدة فور انطلاق الرصاص وإلقاء القنابل والانفجارات.
كل هذا، ولا نشهد أي معارك فعلية على امتداد الفيلم، ولا نرى أي قتال حقيقي، مع شراسة ما نراه ولعلعة الرصاص المتطاير في جميع الأنحاء.
وفي أجواء كهذه، يستمر المخرج في التصوير واستعراض المشاهد الحالكة الظلام، لا سيما في الثلث الأخير من الفيلم، مختبرا صبرنا، وقدرتنا على الاستمتاع بالفيلم.