كارلوفي فاري – محمد هاشم عبد السلام
يندرج “مدينة الرمال” للبنغلادشي مهدي حسن في نوع أفلام المدن التي يُسلِّط المخرجون عبرها ضوءاً على جوانب متنوّعة ومتباينة لعوالم المدن الكبرى والعواصم، وكيف يجهد سكّانها في عيش حياتهم اليومية، وإلى أي مدى تثقل هذه المدن العملاقة على أرواحهم، وتقتل أحلامهم، وتحجب أي أفق.
في دكا، عاصمة بنغلادش، إحدى أكبر الكثافات السكانية في العالم، تدور أحداث أول روائي طويل لحسن (المخرج والمونتير وكاتب السيناريو)، الفائز بالجائزة الكبرى في مسابقة بروكسيما (15 ألف دولار أميركي تُمنح للمخرج والمنتجين)، في الدورة 59 (4 ـ 12 يوليو/ تموز 2025) لـ”مهرجان كارلوفي فاري السينمائي”.
أسلوب تصوير لافت جداً وشبه وثائقي، بلقطات علوية أو بانورامية، صباحية ومسائية، لطرق المدينة وبناياتها، وزوايا كاميرا تتمعّن في التقاط التكتلات العمرانية الصماء، والمباني الخرسانية الرمادية الكئيبة، ورصد الغبار الكثيف الجاثم فوق سماء المدينة، والتلوّث الصوتي المُصمّ للآذان، وتكرار لقطات عمّال بؤساء يحملون سلال الرمال لبيعها في الأسواق، أو مواد تشييد مزيد من البنايات الشاهقة، التي تلتهم أحياء الفقراء. بهذا الأسلوب، استطاع حسن رسم خلفية قاتمة وخانقة، تنقل مدى تكدّس وتكلّس مدينة كئيبة وخانقة، تطحن سكّانها وتجهض أحلامهم بلا رحمة.
بعيداً عن الخلفية التصويرية المهيمنة، الناقلة بفنيات جمالية قبح العاصمة، واشتغال لافت لمدير التصوير ماثيو جيومبيني، يتمحور السرد الدرامي، بذكاء ومهارة، حول مادة أساسية من مواد البناء، الرمال، التي لا يوجد أكثر منها في هذه المدينة، كما يقول بطل الفيلم. السرد نفسه ينقسم إلى خطين غير متقاطعين، ينقلان بإيقاع هادئ عوالم البطلين، إيما (فيكتوريا تشاكما) وحسن (مصطفى منوار)، مُعتمداً أساساً على تقنية المونتاج المتوازي لنقل العالمين بقدر كبير من السلاسة والتكثيف، والابتعاد عن الإرباك والتعقيد، ما ساهم في نقل واضح وصادق لدلالات نفسية واجتماعية واقتصادية، تؤكّد بجلاء مدى الضياع والاختناق والانعزال في مدينة منذورة لانهيار مُهلك، يبدو حتمياً ووشيكاً.
رغم سكنهما في البناية نفسها، واشتراكهما في اهتمام غريب يتمثّل في البحث عن الرمال وسرقتها من مواقع مختلفة بالمدينة، لا تتقاطع عوالم إيما وحسن. تكتفي الحبكة باستعراض حياتهما الغريبة ووحدتهما وانعزالهما وعزوفهما عن الانخراط في المجتمع والاحتكاك بأفراده. المثير للانتباه أنّ التركيز على الاهتمام المشترك بالرمال يوحي بتطوّر الأحداث باتجاه حتمية اللقاء بينهما، لكنّ هذا اللقاء/ التقاطع بين عالميهما لا يحدث، إذْ يتعمّد مهدي حسن ألّا يعلم أحدهما عن الآخر شيئاً، رغم تكرّر فرص اللقاء. هذا من نقاط القوّة الملحوظة في السيناريو.
تُشكّل الرمال، ذات الطبيعة الهشّة وغير المستقرة، الخيط المشترك بين الشخصيتين. ورغم ما تحمله من دلالات وإحالات تأويلية عدّة، تفضي الرمال في النهاية إلى خوف وخيبة أمل ويأس. مع تطوّر الأحداث، يتمّ التعرّف أكثر إلى إيما: شابّة تنمّ ملامح وجهها عن كونها من أقلية عرقية، عرضة دائماً للتنمّر والعنصرية والترصّد. يتجلّى هذا في تعرّض درّاجتها النارية للتخريب اليومي المنتظم، بنقش شتائم عنصرية عليها، من دون معرفة الفاعل والدافع. ربما لهذا تجهد في تحقيق حلم الحصول على فيزا تسمح لها بمغادرة البلد.
أسبوعياً، تسرق إيما الرمال سرّاً من مواقع مختلفة، لتملأ صندوق فضلات قطّتها. ذات يوم، تكشف الرمال التي جلبتها عن سرّ، وربما جريمة قتل، إذْ تعثر على إصبع مقطوع يبدو لامرأة، لكونه مطليّاً بلون قرمزي داكن. وبدلاً من الشعور بنفور وخوف، تجد الإصبع رائعاً، وتُقرّر الاحتفاظ به. تدريجياً، بطريقة غريبة للغاية، تطوّر ارتباطاً عاطفياً ونفسياً، وحتى جنسياً، بهذا الطرف، مستعيضة به عن أي ارتباط إنساني سوي.
على غرار شخصية إيما، لا يُعرف الكثير عن خلفية شخصية حسن، خلا كونه وحيداً، حتّى من الأهل والأصدقاء والرفاق. يعمل في مصنع زجاج، وتبدو أموره مستقرّة نوعاً ما. ذات يوم، يسرق رمال السيليكا من المصنع، ومواد أخرى يُخزّنها في منزله. يُفصل من العمل، بعد التقاط كاميرات المراقبة له، لكنّه لا يكترث بالأمر كثيراً. لاحقاً، يُعرف أنّه يخطّط لصنع نوع خاص به من الزجاج، مُعتقداً أنّ هذا المشروع التجاري سيدرّ عليه أموالاً طائلة.
في “مدينة الرمال“، المُعتمد أساساً على الصورة وقلّة الحوار وغلبة الصمت، يضطلع الممثّلون بالدور الأكبر. لذا، يُلاحظ تمتّع فيكتوريا تشاكما، التي تمثّل للمرّة الأولى، بحضورٍ جذّاب، وأداء مقنع، بتجسيدها شخصية إيما المُركّبة، لا سيما عاطفياً ونفسياً وحسّياً، وبراعة نقل الشعور بالعزلة والوحدة، وخاصة الغربة في مجتمع مُعادٍ للمرأة والأقليات. أمّا مصطفى منوار، فاتّسم حضوره بالبساطة الشديدة والصدق، والعفوية أحياناً، بتأديته المقنعة شخصية القروي، شبه الساذج، والطموح جداً، والراغب في أنْ يصبح ثرياً بسرعة، بينما يفتقر إلى أبسط مقوّمات النجاح والثراء.