محمد هاشم عبد السلام

 

السؤال: لماذا اهتممت بالشعار الفرنسي: حرية، مساواة، إخاء؟

كيشلوفيسكي: للسبب نفسه تحديدًا الذي كنت مهتمًا به في مسلسل “الوصايا العشر”. في الجمل العشر، تعبر الوصايا العشر عن العنصر الأساسي للحياة. وهذه الكلمات الثلاثة – الحرية، والمساواة، والإخاء – تؤدي نفس الغرض بالضبط. الملايين من الناس ماتوا من أجل هذه المُثل. قررنا رؤية كيف تحققت هذه المُثل بصورة عملية وما الذي تعنيه اليوم.

السؤال: ما يهمك إذًا هو الحياة. هل لهذا السبب تركت عملك الأول كمصمم من أجل الذهاب إلى مدرسة في “ودج” والتخصص في الأفلام الوثائقية؟

كيشلوفيسكي: أردت أن أصف العالم في نفس الوقت، خلال الصورة، وأن أعبر عما شعرت به. كان هذا زمن مخرجي الأفلام التسجيلية الكبار: “ريتشارد ليكوك”، و”جوريس إيفنز”. اليوم، وضع التليفزيون نهاية لهذا النوع من صناعة الأفلام. لا تفضل الصناعة التليفزيونية رؤية التعقيد الذي عليه العالم. إنها تفضل التقرير البسيط، بأفكار بسيطة: هذا أبيض، وذاك أسود، هذا طيب، وذلك شرير…

السؤال: كيف تصورت علاقة كل فيلم بالآخر؟

كيشلوفيسكي: نظرنا عن قرب شديد إلى الأفكار الثلاثة، كيف لعبت دورها في الحياة اليومية، لكن من خلال وجهة نظر فردية. هذه الأفكار متناقضة مع طبيعة الإنسان. عندما تتعامل معها بصورة عملية، لا تعرف كيف تتعايش معها. هل يرغب الناس فعلا في الحرية، والمساواة، والإخاء؟ أليست هذه طريقة ما في التفكير؟ نأخذ دائمًا وجهة النظر الشخصية الفردية.

السؤال: لذا عدت إلى الخيال – ومع ذلك فأنت شديد الالتصاق بالواقع الفعلي.

كيشلوفيسكي: أعتقد أن الحياة أكثر ذكاء من الخيال. والعمل لفترة طويلة جدًا في الأفلام التسجيلية أصبح نعمة وعائقًا معًا في عملي. في الفيلم الوثائقي، النص هو مجرد مرشد لك في اتجاه معين. لا يعرف المرء أبدًا كيف ستتفتح القصة وتفصح عن نفسها. وأثناء التصوير، يصبح الغرض هو الحصول على أكبر قدر ممكن من المادة. في عملية المونتاج يتشكل الفيلم التسجيلي. اليوم، أظن أنني مازلت أعمل بنفس الطريقة. ما أقوم بتصويره ليس هو القصة الحقيقية – الجزء المسجل يحتوي فقط على العناصر التي ستشكل قوام القصة. أثناء التصوير، يتم في  كثير من الأحيان تضمين التفاصيل التي لم تكن موجودة في السيناريو. وأثناء عملية المونتاج يتم حذف الكثير.

السؤال: إذا أخذت طريقة التفكير هذه إلى مدى أبعد بدرجة كافية، ألا تعتقد أنك قد تنتهي مستخدمًا السيناريوهات كذرائع فحسب؟

كيشلوفيسكي: لا، على الإطلاق. ليس تمامًا. السيناريو هو المادة الرئيسية بالنسبة لي لأنه وسيلة للاتصال بالناس الذين أعمل معهم. قد يكون الهيكل العظمي، بل إنه الأساس الذي لا غنى عنه. فيما بعد، يمكن تغيير الكثير من الأشياء: قد يتم التخلص من بعض الأفكار، النهاية قد تصبح بداية، لكن ما بين السطور، الأفكار كلها – فهذه تبقى نفس الشيء دون تغيير.

السؤال: تسمي نفسك حرفيًا، كنقيض لكلمة فنان. لماذا؟

كيشلوفيسكي: الفنانون الحقيقيون يتوصلون إلى الإجابات. معرفة الحرفي هي في حدود مهاراته. على سبيل المثال، أنا أعرف الكثير عن العدسات، وعن حجرة المونتاج. أعرف ما هي وظيفة الأزرار المختلفة في الكاميرا. أعرف تقريبًا كيفية استخدام الميكروفون. أعرف كل هذا، لكن هذه ليست معرفة حقيقية. المعرفة الحقيقية هي معرفة كيف تعيش، ولماذا تعيش… أمور مثل هذه.

السؤال: هل قمت بتصوير الأفلام الثلاثة بشكل منفصل، مع وجود فترة زمنية فاصلة بينها؟

كيشلوفيسكي: بدأت بفيلم “أزرق” وقمنا بالتصوير من شهر سبتمبر وحتى نوفمبر 1992. في اليوم الأخير، بدأنا تصوير فيلم “أبيض” لأنك تشاهد في مشهد قاعة المحكمة، شخصيات من كلا الفيلمين معًا. نظرًا لصعوبة التصوير الشديدة في قاعة المحكمة في باريس، حيث حصلنا على التصريح، فقد استغللنا هذا، وقمنا على الفور بتصوير حوالي ثلاثين بالمئة من فيلم “أبيض” لأن الجزء الأول تدور أحداثه في باريس. ثم انتقلنا إلى بولندا لإنهائه. وبعد عشرة أيام، ذهبنا إلى جنيف لبدء تصوير “أحمر” الذي تم تصويره في سويسرا من مارس إلى مايو 1993.

السؤال: هل كانت سيناريوهات الأفلام الثلاثة مكتوبة بشكل تام؟

كيشلوفيسكي: كانت منجزة تمامًا قبل أول يوم من التصوير، قبل ستة أشهر. لا يمكنك أن تنسى الوقت الذي تستغرقه عملية الاستكشاف بحثًا عن الأماكن. يجب عليك التفكير فيما يتعلق بمئة مشهد مسلسل، ثلاثة بلدان وثلاثة مخرجي تصوير مختلفين. يجب عليك أن تنظم وتعد لكي تحقق ما تم الاتفاق عليه مع المنتج.

السؤال: هل كان لديك طاقم العمل نفسه في الأفلام الثلاثة؟

كيشلوفيسكي: مديرو التصوير كانوا مختلفين: “سلوفمير إيدزياك” لفيلم “أزرق”، و”إدروارد كوجينسكي” لفيلم “أبيض” (عمل عدة مرات مع أندجيه فايدا) و”بيوتر سوبوسينسكي” لفيلم “أحمر” وهو مصور صغير السن إلا أنه موهوب جدًا. الآخرون، بالنسبة للصوت، وتصميم أماكن التصوير، والموسيقا، لم يتغيروا. لقد أدوا عملهم بشكل جيد في “الوصايا العشر” لذا بقينا على نفس المبدأ.

السؤال: هل بدأت المونتاج قبل اكتمال تصوير الأفلام الثلاثة؟

كيشلوفيسكي: نعم، كنت أجري المونتاج أثناء التصوير منذ الأسبوع الأول. كنت حتى أقوم بالمونتاج أثناء أوقات الاستراحة.

السؤال: كلما كانت أفلامك أكثر وضوحًا وتماسكًا، بدت أكثر ميتافيزيقية. تصور الكثير والكثير من اللقطات المقربة، أنت أقرب من الشخصيات والأشياء المصورة أكثر من أي وقت سابق: تبدو وكأنك تبحث عن شيء ما وراء المادي أو الجسدي.

كيشلوفيسكي: بالطبع أريد الوصول إلى ما وراء المادي. إلا أنه صعب فعلا. صعب جدًا.

السؤال: ما هو الشيء الذي تحاول أسره أو الإمساك به؟

كيشلوفيسكي: ربما الروح. على أية حال، الحقيقة التي لم أجدها أنا نفسي. ربما الزمن الذي يهرب ولا يمكن الإمساك به أبدًا.

السؤال: هل لأسماء الشخصيات معنى محدد؟

كيشلوفيسكي: حاولت التفكير في أسماء تكون سهلة بالنسبة للجمهور من حيث التذكر وتعكس أيضًا ذوات الشخصيات. في الحياة العادية، هناك أسماء تفاجئنا وتدهشنا لأنها لا تتناسب وحاملها على الإطلاق.

السؤال: بالنسبة لفيلم “الحياة المزدوجة لفيرونيكا” – هل استوحيت شخصية “فيرونيكا” وفي ذهنك الإنجيل؟

كيشلوفيسكي: فعلت هذا لاحقًا، وإنما ليس عندما اخترت الاسم، وعلى الرغم من أن الأمر كان من دون وعي، إلا أنه بدا كارتباط جيد بما اخترته. بالنسبة، لفيلم “أحمر”، سألت “إيرين جاكوب” ما هو اسمها المفضل عندما كانت صغيرة. في ذاك الوقت، كان الاسم المحبب لها هو “فالنتين”. لذا، سميت شخصيتها “فالنتين”. بالنسبة لفيلم “أبيض”، أطلقت على البطل اسم “كارول” (شارلي في اللغة البولندية) كثناء من جانبي إلى “شابلن”. هذا الرجل الصغير الساذج والذكي معًا، يتمتع بجانب “شابلني” عندي.

السؤال: كان “الوصايا العشر” حافلا باللقاءات المفاجئة الخاضعة للصدفة – بعضها حالات ناجحة وأخرى فاشلة. وفي “ثلاثة ألوان”، من فيلم إلى آخر، يبدو أن الناس يلتقون مصادفة ببعضهم البعض.

كيشلوفيسكي: أحب اللقاءات الخاضعة للصدفة – الحياة مليئة بها. كل يوم، من دون وعي أو إدراك، أمر بأناس لابد أنني أعرفهم. في هذه اللحظة، في هذا المقهى، نجلس بجوار غرباء. سينهض الجميع، وينصرفون، ويمضون، كل في  طريقه. ولن يلتقوا ثانية. وإذا حدث والتقوا، فلن يدركوا أن هذه ليست هي المرة الأولى.

السؤال: في “الثلاثية”، هذه اللقاءات لها أهمية أقل مما هي عليه في فيلمك “فيلم قصير عن القتل”، الذي فيه حقيقة أن القاتل المستقبلي والمحامي يفشلان في الالتقاء أحدهما بالآخر هو أمر رئيسي ومفتاحي.

كيشلوفسكي: في “الثلاثية”، تم تضمين هذه اللقاءات بشكل رئيسي لإدخال المتعة على بعض المولعين بالسينما الذي يحبون إيجاد خبرات سابقة أو نقاط مرجعية من فيلم إلى آخر. إنها مثل اللعبة بالنسبة لهم.

السؤال: يوجد في كل فيلم مشهد به شخص عجوز يحاول أن يضع زجاجة في سلة المهملات. ما الذي يعنيه هذا؟

كيشلوفيسكي: أعتقد أن الشيخوخة تنتظرنا جميعًا وأنه في يوم من الأيام لن تتبقى لدينا قوة كافية لوضع زجاجة في حاوية من الحاويات. في فيلم “أزرق”، لتجنب أن يبدو هذا المشهد أخلاقيًا، قمت بتسليط الضوء بشكل مفرط على هذه الصورة. اعتقدت أن “جولي” بهذه الطريقة لن ترى المرأة، ولن تدرك ما سيخبئه لها المستقبل. إنها صغيرة جدًا. لا تعرف أنه في يوم من الأيام ستحتاج لمساعدة شخص ما. في فيلم “أبيض” يبتسم “كارول” لأنه يدرك أن هذا الشخص أكثر سوءًا منه. في فيلم “أحمر” نشاهد شيئًا ما عن تعاطف “فالنتين”.

السؤال: تعرف “فالنتين” ثمن الإخاء وتتعلم “جولي” الحب ثانية. نفس الشيء يمكن قوله عن “كارول” و”دومينيك”. حتى عندما تتحدث أنت عن الحرية والإخاء، فإن الحب هو الكلمة النهاية.

كيشلوفيسكي: لأقل لك الحقيقة، في عملي، الحب دائمًا في تعارض مع العناصر والمكونات. يخلق الورطات. ويجلب المعاناة. لا يمكننا التعايش معه، ولا يمكننا العيش دونه. ستجد النهاية السعيدة نادرة في عملي.

السؤال: مع ذلك فإن السيناريو الخاص بفيلم “أحمر” يبدو أنه يقول إنك تؤمن بالإخاء. ونهاية فيلم “أزرق” هي نهاية متفائلة نظرًا لأن “جولي” تكون قادرة على البكاء.

كيشلوفيسكي: هل تعتقد هذا؟ التفاؤل بالنسبة لي هو حبيبان يسيران معًا وقت الغروب يدًا بيد. أو ربما وقت الشروق – أيًا كان ما يروق لك. لكن إذا وجدت “أزرق” متفائلا، فلم لا إذًا؟ بشكل متناقض، أعتقد أن النهاية السعيدة حقًا هي في “أبيض” الذي هو، مع ذلك، كوميديا سوداء.

السؤال: الرجل الذي يذهب لزيارة زوجته في السجن. تسمي هذه نهاية سعيدة؟

كيشلوفيسكي: لكنهما يحبان أحدهما الآخر! هل كنت تفضل بالأحرى أن تنتهي القصة وهو موجود في وارسو وهي في باريس – وكلاهما حر لكن ليسا أحباء؟

السؤال: موضوع المساواة ليس شديد الوضوح، للوهلة الأولى، في “أبيض”.

كيشلوفيسكي: يمكن أن تجده في مناطق مختلفة: بين الزوج والزوجة، على مستوى الطموحات وعالم الموارد المالية. فيلم “أبيض” هو فيلم عن التفاوت أكثر منه عن المساواة.

نقول في بولندا “يريد الكل أن يكونوا أكثر مساواة من الآخرين جميعًا”. إنه مثلٌ تقريبًا. وهذا يظهر أن المساواة مستحيلة: إنها متناقضة مع الطبيعة الإنسانية. لذا، أخفقت الشيوعية. لكنها كلمة جميلة وكل مجهود يجب أن يبذل للمساعدة في إحداث المساواة… يضع في ذهنه أننا لن نحققها – لحسن الحظ. لأن المساواة الحقيقية تؤدي إلى نظم أو أوضاع شبيهة بمعسكرات الاعتقال.

السؤال: عشت في فرنسا لمدة سنة حتى الآن. هل عدلت الخبرة مفهومك عن الحرية – نظرًا للمغزى الذي لـ “أزرق”؟

كيشلوفيسكي: لا، لأن هذا الفيلم، مثل الفيلمين الآخرين، لا يمت للسياسة بصلة. أنا أتحدث عن الحرية الداخلية. إذا أردت التحدث عن الحرية الخارجية – حرية الحركة – لكنت قد اخترت بولندا. نظرًا لأن الأشياء لم تتغير هناك بشكل واضح. دعنا نأخذ بعض الأمثلة الغبية. تستطيع عن طريق جواز سفرك أن تذهب إلى أمريكا. أنا لا. بمرتب فرنسي يمكنك أن تشتري تذكرة طائرة إلى بولندا، لكن العكس سيكون مستحيلا. لكن الحرية الداخلية عامة، كونية.

السؤال: يبدو “أزرق” كأنه استمرار لفيلم “الحياة المزدوجة لفيرونيكا”، الذي يعتمد بدوره على عنصر من “الوصية التاسعة” (المطرب المصاب بمرض قلبي). يمكننا أن نستمر ونستمر في سرد هذا… يبدو أن كل فيلم يمنحك أو يعطيك خطوطًا عريضة لفيلم آخر.

كيشلوفيسكي: بالطبع، لأنني أصور نفس الفيلم دائمًا! ليس هناك شيء أصلي أو جديد في هذا مع ذلك. المخرجون جميعًا يفعلون الشيء نفسه، والمؤلفون يكتبون دائمًا نفس الكتاب. أنا لا أتحدث عن “المحترفين”، أقصد المؤلفين. انتبه، قلت مؤلفين، ولم أقل فنانين.

السؤال: كل لون تم تصويره في بلد مختلف. هل هذا نابع من الإحساس بالواجب نحو صناعة السينما الأوروبية؟

كيشلوفيسكي: فكرة صناعة السينما الأوروبية فكرة مصطنعة تمامًا. هناك أفلام جيدة وأخرى سيئة: هذا هو الأمر. خذ “أحمر” – قمنا بتصويره في سويسرا لأسباب اقتصادية – سويسرا مشاركة في الإنتاج. لكن ليس لهذا السبب فقط. بدأنا نفكر… أين ستقع أحداث قصة مثل “أحمر”؟ فكرنا في إنجلترا، ثم إيطاليا. ثم قررنا أن سويسرا كانت رائعة، لأنها بشكل رئيسي بلد يرغب قليلا في البقاء غير مركزي. الدليل على هذا هو الاستفتاء الذي أجري بشأن ارتباطه بأوروبا. سويسرا تميل نحو العزلة. إنها جزيرة وسط أوروبا. و”أحمر” هو قصة عن العزلة.

السؤال: هل من الصعب التصوير في فرنسا من دون التحدث اللغة؟

كيشلوفيسكي: بالطبع، لكن لم يكن لديّ خيار آخر. هنا أحصل على التمويل. في أماكن أخرى، لا. في نفس الوقت، إنها أكثر إمتاعًا بالنسبة لي من العمل في أي مكان آخر أعرفه جيدًا جدًا. إنها تثري منظوري. إنني أكتشف عالمًا مختلفًا جدًا، لغة شديدة التعقيد وغنية! ظهر هذا عندما كنت أقترح – بالبولندية بالطبع – تغييرًا طفيفًا في الحوار. الجميع كانوا يردون عليّ، بالفرنسية، مقترحين عشرين طريقة مختلفة للتغيير.

السؤال: لقد خلقت سيمفونية أوروبية أثناء تصويرك للثلاثية…

كيشلوفيسكي: ربما تكون قد أدركت أننا، نتحدث الفرنسية، والإنجليزية، والبولندية، والألمانية. خلقنا مناخًا يشعر فيه الجميع بالراحة. ليست لديّ أي مشكلة في أن أكون مع أناس من جنسيات مختلفة.

السؤال: هل تشعر أنك أوروبي؟

كيشلوفيسكي: كلا. أشعر أنني بولندي. وبشكل أكثر تحديدًا، أشعر كأنني من قرية صغيرة في شمال شرق بولندا حيث لديّ بيت وحيث أحب أن أقضي وقتي. لكنني لا أعمل هناك. أقوم بتقطيع الأخشاب.

 

* مصدر المقابلة غير معروف، حسبما يشير النص الإنجليزي للمقابلة.