وارسو – محمد هاشم عبد السلام

تختتم مساء الأحد في العاصمة البولندية وارسو فعاليات الدورة الـ41 لـ”مهرجان وارسو السينمائي الدولي” المقامة في الفترة من 10 إلى 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2025. انطلاق دورة هذا العام، التي جرت مراسم توزيع جوائزها مساء السبت، جاء كبداية مهمة لتدشين عقد جديد في عمر المهرجان الأكبر والأهم في بولندا، وأحد أعرق مهرجانات وسط وشرق أوروبا.

بارتيك بولسين المدير الفني لمهرجان وارسو السينمائي.

يبدو أن التغيرات الهيكلية التي أجريت مؤخرًا على الطاقم الفني والإداري للمهرجان دفعت بدماء جديدة، تحمل وجهات نظر ورؤى مختلفة، أسهمت في نقل توجهات المهرجان صوب ضفاف مغايرة تمامًا، فنيًا وفكريًا واجتماعيًا، والأهم سياسيًا. إذ يمكن القول، بعد انتهاء أغلب العروض الرئيسية، إن الرؤية الجديدة لمديرته، المخرجة يوانا شيمانسكا، وبقيادة المدير الفني، الناقد بارتيك بولسين، دفعت بالمهرجان صوب المختلف والجريء. إذ حرصت البرمجة العامة للأفلام هذا العام، وبالأخص المسابقات التنافسية، على برمجة أعمال ذات جودة سينمائية رفيعة فعلاً ومدهشة حقًا، تنفتح أفكارها ومعالجاتها على مختلف الثقافات، والآراء، ووجهات النظر، القائمة بالأساس على مشاعر إنسانية نبيلة وقيم أخلاقية رفيعة.

أفلام تعكس تنويعات مختلفة

من هنا، كان الانفتاح على أفلام من بقاع مختلفة خارج وسط وشرق أوروبا. مثلاً، من أفريقيا أو آسيا أو أستراليا. تتناول موضوعاتها الأفارقة والهجرة غير الشرعية، كما في الوثائقي “نيومبا” للإيطالي فرانشيسكو دِل جروسو. أو معاناة ومشاكل الأقليات في بعض البقاع المضطربة، كما في الوثائقي “بيت أصفر في أفغانستان” للأسترالي جورج جيتيوس. أو عن حياة ولغة وثقافة السكان الأصليين كما في الروائي “ماتريارخ” للنيوزيلاندية كايث أكوهاتا براون. هذا إلى جانب تشكيلة عريضة ومميزة من الأفلام، الروائية الطويلة في الغالب، المتناولة لموضوعات اجتماعية ونفسية واقتصادية من بقاع مختلفة، كان من بين أبرزها عربيًا فيلم “كولونيا” أو “عطر أبي” للمصري محمد صيام، في عرضه العالمي الأول، والمشارك في مسابقة “1-2”.

لقطة من “كولونيا” أو “عطر أبي” للمصري محمد صيام.

تناول السياسات الكارثية في أميركا، داخليًا وخارجيًا، كان حاضرًا وبجلاء في فيلم الافتتاح “الذكرى السنوية” للبولندي يان كوماسا. أما اختيار فيلم “صوت هند رجب” للتونسية كوثر بن هنية، فيلم ختام المهرجان، وأكثر من عمل فلسطيني قصير وطويل، يتناول أزمة المنفى والعودة للوطن أو وحشية ما يحدث في غزة على يد جيش البرابرة، فيؤكد قطعية الانفتاح على مختلف الثقافات، ومنها الثقافة العربية الغائبة عن المهرجان منذ عقود. ورغم الطموح الدولي اللافت، وغير المسبوق، لتجاوز حدود البقعة الجغرافية، والقارة الأوروبية، إلا أن المهرجان حرص على اهتمامه المعتاد بالسينما المحلية البولندية، وعرضه لأفلام تتناول بعمق قضايا محلية مختلفة، إضافة إلى دعمه للمواهب الناشئة، وتخصيص أكثر من قسم لأفلام الطلبة.

الأقسام التنافسية والجوائز والجمهور

ينقسم المهرجان إلى أقسام رئيسية وأخرى فرعية، بإجمالي 13 قسمًا، بخلاف الفعاليات الجانبية أو الفرعية. الأقسام التنافسية أربعة: “المسابقة الدولية” وهي مخصصة للأفلام الروائية الطويلة من مختلف أنحاء العالم في عروض عالمية أولى، وتضم 15 فيلمًا. و”مسابقة 1-2″، والمخصصة للأفلام الروائية الدولية الطويلة الأولى أو الثانية للمخرجين والمخرجات الشباب، ويتنافس فيها 15 فيلمًا. و”المسابقة الدولية للأفلام الوثائقية الطويلة”، ويتنافس على جوائزها 15 فيلمًا. أما “المسابقة الدولية للأفلام القصيرة” فتضم 31 فيلمًا من مختلف الأنواع.
بخلاف هذه الأقسام التنافسية، هناك أكثر من قسم فرعي على قدر من الأهمية والتفرد أيضًا، مثل، “سينما الحب”، و”عروض خاصة”، و”مواجهات”، و”أرواح حرة”. ورغم تعدد الأقسام، ومنها 4 تنافسية ذات لجان تحكيم دولية، إلا أن المهرجان لا يمنح غير جائزة مادية واحدة، تحت عنوان “جائزة وارسو الكبرى” للفيلم الفائز في “المسابقة الدولية”.
في حين تعتبر “جائزة الجمهور” التي يمنحها الجمهور بالتصويت لـ”أفضل أفلام المهرجان”، من أهم وأقدم الجوائز العينية. وهذا ليس غريبًا أبدًا بالنظر إلى جمهور المهرجان العريض الذي يحتشد في القاعات الممتلئة دائمًا، وانعكاس هذا في النهاية على نفاد تذاكر العروض. يبدو أن تمركز الفعاليات في قلب مدينة وارسو، وتوزعها على 7 صالات عرض رئيسية متجاورة، ذات طاقات استيعابية مختلفة، جعل من السهل متابعة فعاليات المهرجان التي تلبي مختلف الأذواق. إذ بخلاف عروض الأفلام، هناك دروس السينما. وكان أهمها درس السينما الذي أقامه المخرج الروماني المعروف كريستيان مونجيو.

أيضًا، كان لإطلاق مبادرة “أيام وارسو للصناعة” في الفترة من 13 وحتى 18 أكتوبر/ تشرين الأول، دورها المحوري في تدشين المنصة كوجهة استقطاب مهني لورش وعروض ومشاريع سينمائية، وتعاون إقليمي وإنتاجي مشترك لدعم المواهب الجديدة من وسط وشرق أوروبا. الأمر الذي جذب أيضًا صناع الأفلام والموزعين وشركات الإنتاج الراغبين في تعزيز التعاون بينهم.

توزيع الجوائز الرئيسية

في قسم “المسابقة الكبرى” فاز فيلم “نينو” للمخرجة الفرنسية بولين لوكيه بجائزة “وارسو الكبرى” ومقدارها 100 ألف زلوتي بولندي، أو 25,000 يورو تقريبًا، وأيضًا جائزة “الفيبريسي” أو الاتحاد الدولي للنقاد. وفاز المخرج الهولندي مايك فان يم بجائزة “أحسن إخراج” عن فيلمه “بناتنا”. وفاز الفيلم البولندي “منزل جميل مريح” للمخرج فويتك ماجوفسكي بجائزة “لجنة التحكيم الخاصة”. وفاز الممثل ميلان أوندريك بجائزة “أفضل ممثل” عن دوره في فيلم “أب” إخراج تيريزا نوفوتوفا.

فيلم “نينو” للفرنسية بولين لوكيه الفائز بجائزة وارسو الكبرى.

في القسم التنافسي “1-2″، المخصص لعرض الأعمال الأولى أو الثانية، فاز الأميركي كول ويبلي بجائزة “أحسن فيلم” عن فيلمه الروائي الطويل “أوماها”. في حين حصل “ذئاب برية” المخرج البلجيكي فاليري كارنوي على “تنويه خاص” من لجنة تحكيم المسابقة. وفي ثالث الأقسام التنافسية المخصصة للوثائقيات فاز فيلم “الجواسيس بيننا” للمخرجين الأميركيين جامي وجابريل سيلفيرمان. وحصل فيلم “3000 كلم بالدراجة” للأرجنتيني إيفان فيسكوفو على “تنويه خاص” من لجنة التحكيم.

من فيلم “نهاية” للفلسطيني ورد كيال الفائز بالجائزة الكبرى للفيلم القصير.

في “المسابقة الدولية للأفلام القصيرة”، فاز الفيلم الفلسطيني “نهاية” للمخرج ورد كيال بـ”الجائزة الكبرى”، وفاز الفيلم الصيني “زي مدرسي” للمخرج مارتن زي على “أفضل فيلم”، وفاز بجائزة “أفضل وثائقي قصير” فيلم “ساناي الديك” للهولندية لوتا سالومونس، وفاز فيلم “باراديس” للكندية ماتيا راديك بجائزة “أفضل فيلم تحريك”.

فيلم الافتتاح

كان المهرجان قد افتتح فعالياته بالعرض العالمي الأول لفيلم “ذكرى سنوية” للبولندي الشاب يان كوماسا، مواليد مدينة بوزنان عام 1981، وأحد أهم الأصوات الواعدة في السينما البولندية المعاصرة. يمتاز كوماسا بقدرته على المزج بين القضايا الاجتماعية المعاصرة والأسلوب البصري اللافت، وميله إلى توظيف الرمزية، وتناوله لقضايا الشباب، والدين، والعنف. فضلًا عن اهتمامه بالعلاقة بين الفرد والمجتمع.
في السنوات الأخيرة، بدأ يُطرح اسم كوماسا كمخرج متميز ولافت عالميًا للعمل في الإنتاجات الناطقة بالإنكليزية. خاصة بعد ترشيح فيلمه الرائع “جسد المسيح” (2019)، عن شاب جانح يتقمص دور كاهن في قرية صغيرة، لجائزة “أوسكار” لـ”أحسن فيلم أجنبي”. وإثارة الفيلم لجدالات ونقاشات واسعة حول الدين والهوية. أيضًا، النجاح اللافت الذي حققه فيلمه “كراهية” (2020)، وفوزه بجائزة “أفضل فيلم” في مسابقة “تيارات جديدة” في “مهرجان تريبيكا”. وهو معالجة جدية لقضية خطاب الكراهية على الإنترنت والتلاعب الإعلامي.

لقطة من فيلم الافتتاح “ذكرى سنوية” للبولندي يان كوماسا.

“ذكرى سنوية”، المشارك أيضًا في المسابقة الرئيسية لـ”مهرجان وارسو”، هو التاسع في مسيرة المخرج غزير الإنتاج. اللافت للانتباه أن الفيلم هو الأول الناطق بالإنكليزية في مسيرته، وتدور أحداثه حول إحدى الأسر الأرستقراطية في المجتمع الأميركي المعاصر. وذلك عبر دراما اجتماعية نفسية قوية، تتطور على نحو قوي، مثير ومؤثر، بعدما يقدم جوش (ديلان أوبراين)، ابن إلين (ديان لين) وبول (كايل تشاندلر) صديقته الجديدة وزوجته اللاحقة ليز (فيبي داينيفور) للعائلة، في حفل الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لزواج والديه.
هذا الحدث العابر لم يخطر لأحد أنه سيكون بداية النهاية لهذه العائلة السعيدة. إذ يتضح أن ليز، الطالبة التي درست على يد إلين سابقًا، كانت قد طردت من الجامعة قبل عدة سنوات بسبب آرائها الراديكالية والعنصرية. ومع تعاقب الأحداث يزداد تأثير ليز على الأسرة أكثر فأكثر، ويبدو أثره التدميري، وتكتسب الأيديولوجيا الجديدة التي تروج لها، والتي تطلق عليها اسم “التغيير”، المزيد والمزيد من الدعاية أو البروباغندا. ومن ثم، تعكس الصراعات العائلية المخفية، العميقة والعنيفة، قوة منذرة، تحيل إلى مصير بلد يتأرجح على حافة انهيار بدأت بوادره تلوح في الشوارع المحتقنة.

“صوت هند رجب” يتردّد في قلب وارسو

لا شك في أن اختيار عرض فيلم “صوت هند رجب” لكوثر بن هنية في ختام “وارسو السينمائي” من الأمور المترتبة على التطورات الحادثة بشأن تطوير المهرجان، وفكر القائمين على برمجته وتنظيمه. كما يعزى أيضًا لأحداث حرب غزة، وتبعاتها المتراكمة على مدى سنتين، من إبادة ومجاعة وتطهير عرقي. إذ لم يكن متوقعًا أبدًا أنه في بلد يُعرف عنه العداء والعنصرية تجاه الآخر، وبالأخص وعلانية تجاه العرب، وقد عايشت هذا بنفسي مرارًا، ولفترات طويلة، أن يُعرض في ختام أهم وأكبر مهرجاناته “صوت هند رجب” لكوثر بن هنية، ما يبرهن على التغيير الحاصل على مختلف المستويات.

“صوت هند رجب” لكوثر بن هنية المعروض في ختام المهرجان.

المعروف أنه من أشهر معالم العاصمة “متحف بولين لتاريخ اليهود البولنديين”، ويعتبر أحدث وأكبر المتاحف الحديثة العارضة لتاريخ يهود بولندا على مدى ألف سنة، من الهجرة الأولى إلى أيام الحرب العالمية، وما بعدها. و”كنيس نوزيك” الذي نجا من تدمير وارسو خلال الحرب العالمية. ونصب “أبطال الغيتو” الذي يُخلّد انتفاضة غيتو وارسو عام 1943. كذلك، تحتوي المدينة على واحدة من أكبر وأقدم المقابر اليهودية في أوروبا، تأسست عام 1806، وتضم مئات الآلاف من القبور لعائلات يهودية عاشت في وارسو، وما حولها. أيضًا، مقبرة أخرى كبيرة تأسست سنة 1780، في ضاحية “برودنو” بالجانب الشرقي للمدينة. وهذا بخلاف المخبأ الأشهر في شارع “ميلا” الذي استخدمه مقاتلو منظمة المقاومة اليهودية خلال انتفاضة غيتو وارسو. وأخيرًا، وليس آخرًا، “مهرجان السينما اليهودية”، المقام منذ ربع قرن تقريبًا في قلب وارسو، (الدورة الـ23 ستقام في الفترة من 3 إلى 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025).
ما سبق مجرد أمثلة قليلة عن أبرز وأهم المعالم الشهيرة، دينيًا وثقافيًا وسياحيًا، وكلها مجاورة لبعضها تقريبًا في وسط العاصمة، حيث صالات مهرجان وارسو، وانعقاد جميع فعالياته. وبالنظر إلى أن “صوت هند رجب” ليس فيلمًا عربيًا عاديًا قادمًا من غزة، بل عمل يفضح ويجرم ويدين وحشية إسرائيل وبربرية جيشها، بمنتهى الوضوح والمباشرة والعلانية، وبلا أدنى تردد أو مساحة للجدل، فإن عرضه يعتبر من الأمور اللافتة فعلًا. وبالتأكيد يمثل نقطة محورية هامة جدًا، تضاف إلى الزخم العالمي الذي خلقه الفيلم، ومساهمة حميدة تضاف إلى الالتفات العالمي الحاصل لما يجري في غزة، والتعريف أكثر بأمر القضية الفلسطينية لجمهور جد منغلق، ولا يكترث بها كثيرًا.
وبصرف النظر عن أي اعتبارات فنية أو نقدية أو تضامنية متعلقة بالفيلم، فليس ثمة شك في أن الأثر الذي سيتركه الفيلم سيكون بالغًا، عاطفيًا ونفسيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا، في نفسية جمهور اعتاد منذ عقود على وجهة نظر واحدة فحسب، تكرس للتعاطف والتأييد الدامغ لقضية اليهود، وما جرى لهم في معسكرات الاعتقال، وحدهم، ودون غيرهم. صحيح أن النجاح الجماهيري الكاسح الذي بدأ يحصده الفيلم، وجوائز لم تتوقف منذ انطلاقته في “مهرجان فينيسيا” الشهر الماضي، وليس انتهاء باختياره كفيلم افتتاح “مهرجان الدوحة السينمائي”، وأيضًا كختام “مهرجان القاهرة السينمائي”، دفع القائمين على “مهرجان وارسو” لاقتناص فرصة عرضه، لكن يُحسب للمدير الفني، وإدارة المهرجان، وهامش الحرية الممنوح لهما، السماح بعرضه، ليس كفيلمٍ عابر، بل كفيلم ختام. مما يؤكد على ضرورة مواصلة إنجاز أعمال مثل “صوت هند رجب”. ويوضح، في النهاية، أن الآخر ليس ضدنا دائمًا، وطوال الوقت، وعلى استعداد لسماعنا. ومن ثم، فربما نكون نحن من يقصرون بحق أنفسنا، وعرض قضايانا، والدفاع عن حقوقنا، إن لم نبادر إلى سرد حكاياتنا.