محمد هاشم عبد السلام
31/3/2016
بالرغم من أن العنوان الألماني لفيلم “وحيدًا في برلين” (Alone in Berlin)، الذي عرض مؤخرًا ضمن مسابقة مهرجان برلين السينمائي الدولي السادس والستين، قد التزم بالعنوان الأصلي للرواية المقتبس عنها، وهو ( (Jeder Stirbt Für Sich Allein، لكن المخرج السويسري “فينسينت بيريز” في ثالث أفلامه الروائية، آثر أن يحمل الفيلم عنوان الترجمة الإنجليزية، المتطابقة مع الترجمة الإنجليزية للرواية، والتي جاءت تحت عنوان “وحيدًا في برلين”، وهي ترجمة بخلاف كونها بعيدة كل بعد عن العنوان الأصلي للرواية، فإنها تعتبر أيضًا أكثر بُعدًا وإخفاقًا بالفعل في التعبير عن محتوى الفيلم وسياق قصته.
فيلم “وحيدًا في برلين” مقتبس عن رواية للكاتب والأديب الألماني “هانز فالادا” – الذي يعتبر من أعلام من كتبوا في أدب المقاومة والرفض واسمه الحقيقي “رودولف فيلهالم فريدريش ديتزين” (1893 – 1947) – تحمل عنوان “كل إنسان يموت وحده”، والتي صدرت في عام 1947، وتعتبر من أشهر أعمال الكاتب، وتم تقديمها للسينما غير مرة. وتستلهم الرواية واحدة من قصص مقاومة النازية التي وقعت أحداثها أثناء تلك الفترة القاتمة في تاريخ ألمانيا تحت حكم الرايخ، وعلى وجه الخصوص، الفترة من بدايات الأربعينيات من القرن الماضي، عقب الانتصار الذي حققته النظام النازي على نظيره الفرنسي، وعلو نبرة الانتصار الساحق الذي تحقق، والرغبة في تحقيق المزيد من البطولات والأمجاد، حتى وإن كانت على حساب المزيد والمزيد من جثث الأبرياء الذين كانوا يلقون حتفهم كل يوم في سبيل تحقيق بطولات وانتصارات زائفة ترضي غرور رجال السياسة المرضى.
ومن بين هؤلاء الذين سقطوا أثناء القتال على الجبهة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، أحد الجنود الشباب ويدعى “هانز كوانجيل”، نعرف فيما بعد أنه ينتمي لأسرة ألمانية بسيطة من الطبقة الوسطى العاملة، تعيش حياتها بالكاد على نحو يومي كمعظم الأسر في تلك الفترة، وكغيرها أيضًا تؤيد القائد والزعيم المُلهم، وألمانيا النازية، وتنتمي للحزب، وكل ما تقوم به من أفعال تضامنية هي حقًا عن إيمان واقتناع وصدق. وذلك حتى يصل إلى تلك الأسرة نبأ وفاة ابنهما الوحيد، والذي شاهدنا لحظة سقوط جثته على الأرض مع المشاهد الأولى الافتتاحية في الفيلم. مباشرة ينتقل الفيلم ليرصد لنا قصة العامل البسيط “أوتو كوانجيل” (بريندان جليسون)، وزوجته “آنا كوانجيل” (إيما تومسون)، وذلك بعدما وصلهما خبر وفاة الابن.
هذا الحدث الجلل يحطم قلب الزوجين ويقلب حياتهما رأسًا على عقب، فعوضًا عن الغرق في الحزن والكآبة والاستسلام للمأساة والانهيار التام، ينقلب حال تلك الأسرة تمامًا، وسرعان ما تفيق من غيبوبة الدولة النازية ودعايتها الكاذبة وكل أحلامها الزائفة ووعودها المستقبلية الملطخة بدماء مئات الآلاف من أبناء هذا البلد الذين صدقوا وآمنوا عن طيب خاطر أو أجبروا على تصديق تلك الأكاذيب والانصياع لها عنوة. يتفتق ذهن “أوتو”، في البداية، ثم تساعده “آنا” فيما بعد، عن فكرة مفادها ضرورة توعية الشعب بخطورة ما يحدث أو الإعراب عن نبرة إدانة واحتجاج وفضح لكل ما يحدث من كذب وتضليل وتزييف للوعي، على الأقل، أن يكونا صوت من لا صوت له، ويصبحان بمثابة المعارضة أو صوت الوعي والحقيقة في خضم كل ما يحيط بهما من زيف.
ومن ثم يكرس “أوتو” و”آنا” وقتيهما من أجل كتابة وتوزيع أكبر قدر ممكن من الرسائل الفاضحة والمقاومة للنظام النازي على ظهر البطاقات البريدية أو كروت البوستال، مثل “ضرورة إزاحة هتلر عن السلطة”، و”الموت لهتلر”، و”ضرورة إيقاف ماكينة الحرب”، و”المطالبة بحرية الصحافة”، و”الفوهرر قتل ابني، وسوف يقتل أولادكم”، “ظل هتلر يخيم على البلاد كما الشيطان” إلخ، ثم القيام بتوزيع تلك البطاقات بمنتهى الدقة والحرص في كافة الأماكن الحكومية والرسمية والهيئات والمؤسسات في أنحاء العاصمة برلين. وهو أمر سرعان ما لفت انتباه قوات الأمن الخاصة والجستابو، وحشدا من أجله جل جهودهما لإيقاف تلك الكروت والقبض على مروجيها، خاصة بعدما وصل عدد تلك البطاقات في النهاية إلى أكثر من 250 بطاقة تقريبًا جرى توزيعها في كافة أنحاء برلين، من أصل 285 بطاقة تمت كتابتها.
برغم خطورة الأمر، حيث الأعين الساهرة لرجال الجستابو وجهاز الأمن الوطني وغيرهما من العملاء والمخبرين والجواسيس والمتعاونين، ومع عدم انخراط “أوتو” ولا “آنا” من قبل في السياسة أو اشتغالهما أو حتى مجرد ممارستهما لأي فعل له علاقة بالمقاومة من قريب أو بعيد، لكنهما ينطلقان في تنفيذ ما عقدا عليه العزم، رغم علمهما بالتبعات المترتبة عليه، و أن مصيرهما في النهاية سيكون بكل تأكيد هو تنفيذ حكم الإعدام عليهما. والمثير في الأمر أن لا “أوتو” ولا “آنا” ناقشا معًا ولو مرة واحدة مدى تأثير ما سيفعلانه من فعل “مقاومة”، إن جاز لنا أن نطلق عليه تلك التسمية، فأقل ما يوصف به – إن لم ننعته بأنه بالغ السذاجة – أنه شديد العبثية.
إنهما حتى لم يتباحثا في مدى النجاح الممكن تحقيقه أو كم التأثير الذي ستحدثه مثل هذه البطاقات والعبارات المدونة عليها، مهما بلغ عددها؟ هل، مثلا، ستوقف الحرب وتردع النازي عن مخططاته؟ أم ستحجمه عن ضم وإلحاق المزيد والمزيد من الشباب بالجيش؟ أم ستؤدي في النهاية، وهذا مستحيل بالطبع، إلى تحرك الجماهير وعزوف الشباب عن الانضمام للخدمة العسكرية، وانتفاض المجتمع للوقوف ضد كل ما يحدث من كذب وزيف؟ والمثير في الأمر أكثر وأكثر، أنه ومع تتالي أحداث الفيلم المتلاحقة ومتابعة أنشطة “أوتو” المحمومة وزوجته “آنا”، نتبين أن كل تلك الجهود كانت محصورة فحسب في نطاق أجزاء من مدينة برلين فقط، دون أن تمتد لتشملها كلها، وهو أمر يصعب تحقيقه على شخصين بمفردهما، بل حتى وإن تسنى لهما تحقيقه على مدى زمني بعيد، فما هي أهميته مع استحالة تنفيذه في جميع المدن الألمانية الأخرى!
إن هذا بالطبع لا ينتقص بالمرة من هول الفاجعة التي فطرت قلبي “أوتو” و”آنا”، ولا يقلل مطلقًا من فعل التمرد والتغريد خارج السرب، واللذين اختارا عن قناعة وجرأة الإقدام عليه، برغم تبعاته المُهلكة آنذاك. وبالطبع على المرء أن يقدر ويحترم أي صوت أو فعل للمقاومة من جانب أي فرد مهما كان، لكن ما نناقشه هنا هو مدى التأثير مثل هذا الفعل المجاني من جانب “أوتو” و”آنا”، وهل مثل تلك الأفعال النابعة من انفعالات إنسانية وشخصية بحتة تحقق غايتها بالفعل أم تذهب في النهاية طي النسيان دون أدنى أثر يذكر، لأنها بالأساس ابنة شحنة عاطفية شخصية وتأثر ذاتي، وليست ابنة المنطق والتخطيط ضمن سياق كلي عام يهدف لتحقيق أثره عبر نطاقات عريضة ومتشعبة.
إن كل تلك الأسئلة، وما هو أكثر منها، بالطبع، لم يتصد الفيلم لطرحها بالمرة، فلم يكن هدف “وحيدًا في برلين” طرح مثل هذه الأسئلة، وإنما مجرد سرد أحداث تلك القصة الواقعية، التي تناولتها الرواية على نحو يتسم بالصدق والأمانة. وقد تحقق لمخرج الفيلم “فينيسيت بيريز” ما أراد أن يصل إليه، فالقصة لم تتشعب، ولم تتناول ولو عرضًا أية أحداث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تحيد بالفيلم عما أراد الوصول إليه. من ناحية أخرى، ليس ثمة شك في أن الاكسسوارات وأيضًا الديكورات، لا سيما الخارجية، أسهمت إلى حد كبير في إكساب قصة الفيلم بعدها التاريخي، ونقلت على نحو شديد الصدق والإقناع أجواء سنوات الأربعينات من القرن الماضي على نحو لافت.
لكن، بخلاف تلك الإجواء ومسحة الإثارة، التي أضفت على القصة بعض الحيوية والرغبة في المتابعة، لم يكن التمثيل لافتًا إلى حد بعيد، وباستثناء بعض المشاهد القليلة الجيدة، كان الأداء عاديًا جدًا من الشخصيتين أو الثلاثة محور الفيلم، “أوتو” (بريندان جليسون) و”آنا” (إيما تومسون) ومفتش الجستابو “إيشيريخ” (دانيال برول)، الذي أفلح في النهاية في الإيقاع بهما. وإضافة إلى مشكلات الاقتباس وافتقاد الإثارة وضعف التمثيل وتسطح الشخصيات وانتفاء العمق النفسي على امتداد الفيلم، وأيضًا طوله الذي ناهز الساعتين، كانت هناك معضلة متمثلة في صعوبة الاقتناع بفيلم ألماني تاريخي يتحدث الجميع فيه باللغة الإنجليزية، وليس الألمانية. ولهذه الأسباب وغيرها، كان من الطبيعي أن يخرج الفيلم دون الحصول على أية جائزة من جوائز المهرجان الرئيسية التي نافس عليها، برغم احتواء قصته على أبعاد درامية وتشويقية لم تُستغل قط.