محمد هاشم عبد السلام
من بين المميزات العديد التي تسم سينما المخرج الإيراني الكبير “أمير نادري”، نرصد ملحمًا بارزًا على وجه التحديد لا يميل عنه المخرج مع كل فيلم جديد يقدمه، ألا وهو هوسه الدائم بالاستعارة. ومع فيلمه الجديد، “الجبل” (Monte)، لم يدع نادري مجالا لأي شك في يقيننا بهذا الهوس عنده، فالاستعارة باتت على نحو قاطع هي جوهر ولب سينما هذا المخرج، الذي لا يزال مع كل جديد يقدمه يثير فينا الدهشة والإثارة، ويدعونا للتفكير العميق والتأمل الفلسفي في تلك القضايا الوجودية العميقة التي تطرحها علينا حبكات أفلامه البسيطة.
إن ما يبحث الناس عنه في السينما، على وجه التحديد، هو تلك الدفقة أو الشحنة التي تولد لديهم مجموعة من الحوافز أو البواعث التي تدفعهم في النهاية إلى تأمل ومراجعة ماضيهم ومستقبلهم، والاستمرار في حياتهم على نحو أو آخر أو التطلع بقدر ما من الأمل والطموح إلى حيواتهم المُستقبلية. وهذا هو ما يرجونه من السينما، وليس مجرد تزييف واقعهم أو الهروب منه، وليس أيضًا ذلك التكرار أو التماثل أو التماهي المطابق لحياتهم اليومية، ولا بالطبع الرغبة في رؤية أنفسهم وحيواتهم على الشاشة. ومن هنا، تجيء أهمية الاستعارة في السينما، وتوظيف تلك الاستعارة بصريًا لتحقيق الهدف المنوط بها تحقيقه.
ذكرنا أن أعمال أمير نادري، بالأحرى حبكات أفلامه بالأساس، على قدر كبير من البساطة، وهذا ينسحب أيضًا على عدة مقومات أخرى ملحوظة بقوة في سينما نادري، بداية حتى من عناوين أفلامه، وهي في الغالب عناوين مفتاحية لقراءة أعماله، وليس انتتهاءً بما نلمسه في الخيوط الرئيسية القليلة في أفلامه، وقلة الشخصيات بها، وتفاصيل كادراته المتقشفة بالأساس، والتي تركز على وترصد ما هو ضروري فحسب. كل هذه المفردات التقنية التي يوظفها نادري باقتدار في أفلامه تعمل، بالنهاية، على وصول ما يرغبه من استعارة، بطريقة مباشرة وقوية وحادة، تصيب الهدف مباشرة.
من ناحية أخرى، تحفزنا أعمال أمير نادري، وشخصياته السينمائية، في كثير من الأحيان، على التحلي بالصبر والعزيمة والتمرد، وهذا ما يبرز أيضًا وتمكن ملاحظته بقوة مع كل جديد يقدمه. فتلك الشخصيات، على عكس ما قد يتصوره البعض أو تبدو لنا من الوهلة الأولى، ليست مصابة على الإطلاق بحب تعذيب النفس، إنها في صميم أعماقها بعيدة تمام البعد عن هذا، ومع تأملها عن كثب نجد أنه من السهولة بمكان النظر إليها كقدوة تُحتذى في التحدي والصبر والعزيمة والتمرد، وإن خالط هذا كله بعض الشطط أو جعلها تفارق الواقع، لكنها في النهاية شخصيات تتسق وتتقاطع مع الطبيعة الاستعارية لما يقدمه المخرج من موضوعات ومواقف تتطلب منها أن تبذل نفسها وتصل بها إلى أقصى حدود الطاقة البشرية.
إن كل تلك المفردات التي تحدثنا عنها حاضرة وبقوة في فيلم أمير نادري الأخير، “الجبل”، والذي كتب له نادري السيناريو والحوار بالاشتراك مع كاتب السيناريو الإيطالي “دوناتيلو فومارولا”، وامتد زمن عرضه لما يقترب من الساعتين. وقد اختار نادري أن تدور أحداث فيلمه في قرية جبلية صغيرة بإيطاليا، في زمن القرون الوسطى. وطاقم الفيلم بأكمله تقريبًا، بداية من الإنتاج وانتهاء بأصغر المساعدين، من الإيطاليين، في أول سابقة لنادري يعمل بها في ظل الإنتاج الإيطالي، ومن ثم كان من الطبيعي أن تكون لغة الفيلم هي الإيطالية. وقد سبق لنادري أن أقدم على نفس الخطوة في فيلمه الروائي الأخير، “قطع”، الذي تم تصويره في اليابان وقام بتنفيذه طاقم ياباني وهو ناطق باليابانية.
لأن طبيعة الاستعارة بالإمكان تأويلها إلى ما لا نهاية، نظرًا لما تحمله من صور ودلالات يصعب حصرها، فإن الاستعارة الكبرى هنا التي يتمحور حولها الفيلم، وهي الجبل، يصعب تأويلها أو حتى حصرها في معنى معين أو محدد بذاته، فالجبل قد يحيل إلى الموت أو الطبيعة أو الكون بصفة عامة أو إلى الإله ذاته من دون أدنى شك، مرورًا بكل هذا معًا أو لا شيء منه بالمرة، لكن مع التعمق في أحداث الفيلم، نربط ما يجري إلى حد ما بالموت. فمنذ اللقطة الافتتاحية للفيلم، حيث نجدنا إزاء مقبرة صغيرة، جد بسيطة، عند سفح أحد الجبال الشاهقة، حيث يسكن قلة من الفلاحين المعدمين تقريبًا، ومن ثم تُمكن قراءة الفيلم كصرخة احتجاج واعتراض ضد الموت ذاته، لكن دون أن ينفي ذلك، أنه مع تطور الأحداث، وحتى لحظة انهيار الجبل وانتصار الإرادة البشرية عليه كقوة عاتية لا تقهر، تُمكن أيضًا قراءة الفيلم بصورة أخرى مغايرة كلية.
يبني نادري فيلمه على نحو غاية في الدقة والبطء، وبأدق التفاصيل والجميل الحوارية، مفسحًا المجال أكثر للصور التي تترى على الشاشة لتنقل ما يرغب في مراكمته على امتداد زمن الفيلم، وحتى اللحظات الختامية منه. نتعرف عبر أحداث الفيلم على “أوجاستينو” (أندريا سارتوريتي)، ذلك الفلاح الإيطالي البسيط، الذي يعيش وزوجته “نينا” (كلاوديا بوتينزا)، في إحدى القرى الفقيرة عند سفح جبل يظهر على نحو متكرر منذ بداية الفيلم في الخلفية، في أغلب الكادرات، ومع تتالي الأحداث نتناساه تمامًا، لكن مع اقتراب الفيلم من خاتمته يطل من جديد كخصم وند وبطل له دوره كأبطال الفيلم. نستوعب تدريجيًا أن تلك القرية الصغيرة، راح سكانها يهجرونها خوفًا من تساقط الصخور دون إنذار، الأمر الذي بالفعل لوفاة العديد من أقل القرية، وكان آخرهم ابنة أوجاستينو ونينا، واللذين لم يتبق لهما من أبناء سوى “جيوفاني” (زاك زانجاليني)، إضافة إلى أن الجبل يعمل على حجب أشعة الشمس التي لا تصل إلى القرية، ومن ثم فإنه يعوق العيش بصفة عامة والزراعة بصفة خاصة.
وفي اتفاق ضمني، يتم التعبير عنه صراحة بلغة العيون والإشارات، يتفق الزوجان على البقاء بتلك القرية شبه الجدباء كي يكونا دائمًا بالقرب من مات من الأهل وأقارب، لا سيما الأبناء، خاصة بعدما حاولات الكلاب والذئاب نبش قبر الابنة ونهش الجثة الطازجة. ومع ظروف العيشة القاسية وبوار الأرض، يضطر أوجاستينو، للتوجه إلى المدينة للبحث عن أي عمل لكنه دائمًا ما يقابل بالصد والنفور، فيلجأ لبيع بعض ما تبقى لديهم بالمنزل من متعلقات، فيقابل بالعزوف والخوف من أن تكون تلك الأشياء المشئومة ناقلة للعدوى أو ما شابه من مش، إذ يتناقل الناس فيما بينهم أن أوجاستينو ليس مؤمنًا وأنه مُهرطق ممسوس.
لم يوضح لنا سيناريو الفيلم، حتى هذه المرحلة من الفيلم تلك النقطة الخاصة بإيمان أوجاستينو على وجه يقيني صارخ وكاشف، فقط مُجرد مشهد طويل عميق ومكثف، نشاهده عقب مطاردة الناس والشرطة لأوجاستينو بتهمة سرقة دبوس شعر زوجته، الذي كان يرغب في بيعه ليطعم عائلته، وأثناء المطاردة يدخل بمحض الصدفة إلى كنيسة صغيرة بها بعض الأيقونات الدينية والشموع، وعبر أحساسيه المكثفة البادية على قسمات وجهه ونظرات عينيه، نتبيّن أن ثمة مشكلة ما متعلقة بإيمان أوجاستينو أو ثورته الغاضبة بعد كل ما حل به، وانعدام قدرته بالمرة على التواصل مع الرب.
يزداد الأمر سوءًا مع عودته إلى القرية، فيجد الجنود قد اعتقلوا زوجته لإيداعها الدير، وطاردوا ابنه بغية القبض عليه، وأن بيته قد تم حرقه، فيجد نفسه فجأة من دون عائلة وفي العراء ومنبوذ من الجميع. وهنا، بعدما بلغ السيل الزبى، يجد أوجاستينو نفسه مُمكسًا بمطرقة ضخمة ويبدأ في توجيهها دون هوادة نحو الجبل الشاهق بمنتهى القوة والعزيمة، وهو يُطلق، على نحو لا يتوقف ومع كل ضربة، صراخات مدوية كالعواء، صادرة من أعماق روحه الجريحة المُثقلة. ومع تتالي الكادرات، واختلاف زواياها وإضاءتها وتشكيلاتها بصفة عامة، إضافة بالطبع إلى بعض المكياج، نتبين أن الزمن قد مر على أوجاستينو، وهو على نفس الحال، لا يكل ولا يمل أبدًا.
بعد فترة وجيزة، تهرب زوجته وتبحث عنه فتجده، وسرعان ما ينضم إليهما ابنهما، الذي يتماهى من فوره مع صرخات والده وما يقوم به، فإذا بهما معًا يعملان مطارقهما في الجبل، الذي بالكاد تأثر بخدوش بسيطة رغم تتالي طرقاتهما المُفرطة القوة. يصابا بالإعياء والوهن والمرض، ناهيك عن الأيادي التي تُدمى من فرط الإمساك بالمطارق. وبرغم ذلك لا ينتابهما الكلل أو الملل ولا تفِتُ صلادة الصخور في عضديهما، فإذا بالسنون تمر عليهما فيكبران، وحتى يشيخ أوجاستينو تمامًا، لكن بعد فترة زمنية لا ندركها على وجه التحديد ولا أهمية لها هنا، يتحقق لهما بالفعل ما أرادا، فإذا بصرخات تدل على تدحرج قوي للصخور تنذرهما بأن الجبل بالفعل على وشك التداعي، فنطلقا بعيدًا، تاركين الجبل ينهار من خلفهما. وسواء وُصِما بالجنون أو الهوس أو الخبل أو التطرف أو حب تعذب الذات، فلا أهمية لذلك، بعدما تحقق لهما ما أرادا وأتت صرخاتهما مفعولها، وتمخض كل هذا عن فعل ثوري خارق ضد القدر والمصير.
بطبيعة الحال، لا يمكننا القول إن فيلم “الجبل” لأمير نادري يُعتبر بمثابة التحفة السينمائية الخالصة، لكنه بالقطع كاد يقترب من أن يكون على هذا النحو بالفعل، فليس ثمة ما يؤخذ على الفيلم ربما سوى بعض الإطالة في لقطات ضرب الجبل، لكن لا بأس في هذا، لأن اللقطات إجمالا بتنويعاتها لم تكن مزعجة قط. كذلك، مشاهد الصخور المُتدفقة المُصحوبة بصوت مُرعِد على الشاشة لم تكن موفقة بالقطع، لأنها مُفتعلة بالقطع، وإن كانت أيضًا غير مزعجة بالمرة. ففي سياق فيلم يقترب زمنه من الساعتين تقريبًا لا بأس من بعض الكادرات شبه الضعيفة، لا سيما وأننا على امتداد الفيلم، بداية من الأداء والتصوير والديكور والملابس، وأجواء القرون الوسطى الماثلة أمام أعيننا على نحو لافت، ومجموعة الألوان البديعة للغاية، وإن غلبت عليها الألوان القاتمة، والتي اقترب الكثير منها إلى درجة ساحرة، يحق لنا أن نغفر بعض الهنات هنا وهناك في سياق فيلم رائع كهذا، ومن مخرج كأمير نادري، على قدر بالغ من العزيمة والإرادة والروح الجميلة، تمامًا كالتي لأبطاله. وقد استحق نادري بالفعل أن يُتوّج بالعديد من الجوائز والتكريمات، والتي كان أحدثها جائزة “جيجر لوكولتر”، في مهرجان فينيسيا الأخير عن مسيرته المهنية الحافلة.