أجراه: سيمون جراي

ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

 

سيمون: قمت في الفيلم ببناء قريتين للاجئين من الصفر. هل كانت هذه نيتك أصلا؟

أنجلوبولوس: عندما نقوم بكتابة شيء ما، لا نعرف ما الذي يوجد في العالم الحقيقي. تنظر، وتحاول العثور على ما تحتاج إليه. لكن لم يكن هناك شيء مسبق.

سيمون: لا أماكن التصوير الداخلية ولا الخارجية؟ هل تم تصوير الأماكن الداخلية في القريتين اللتين قمت ببنائهما؟

أنجلوبولوس: كل شيء. باستثناء البيت الكبير للعائلة. هذا بيت حقيقي موجود في قرية صغيرة بالجوار. إن عمره 150 سنة – عندما بني، كانت تلك المنطقة لا تزال تحت الحكم العثماني.

سيمون: هل قام الأتراك ببنائه؟

أنجلوبولوس: لا، اليونانيون، لكن اليونانيين تعاونوا في بنائه مع العثمانيين. قمنا بنسخ الجزء الخارجي الحقيقي من البيت بالضبط من أجل البيت الذي بنيناه في القرية التي شيدناها.

سيمون: هناك إحساس حقيقي بالتاريخ في ذلك البيت. وجدت الفيضان وتهشيم نوافذ البيت مؤثرين ومخيفين. كيف تمكنت من تحقيق الفيضان؟

أنجلوبولوس: استخدمنا بطانة معدنية رقيقة لاحتواء الماء في الدور الأرضي من البيت، مثل حوض سباحة.

سيمون: والفيضان في الخارج هل كان حقيقيًا؟

أنجلوبولوس: نعم، كانت القرية بجوار النهر.

سيمون: كيف عرفت متى ستتفجر ضفتا النهر؟

أنجلوبولوس: بنينا مكان التصوير في جزء كبير من بحيرة تجف لثلاثة أشهر في السنة – أكتوبر، نوفمبر، وديسمبر. وقد توجب علينا أن نبني القرية بسرعة شديدة، كي نقوم بالتصوير. ثم جاء الفيضان بعد ذلك. ثم قمنا بتصوير الفيضان.

سيمون: إنها مخاطرة كبيرة!

أنجلوبولوس: نعم! لكن كان هناك خطر أكبر من هذا. إذ كانت هناك ثلاثة أيام من المطر المتواصل، فكان من الممكن أن يرتفع الماء بسرعة كبيرة.

سيمون: ولابد أن التكلفة كانت كبيرة جدًا لبناء الأماكن – أكثر مما كان في أفلامك السابقة.

أنجلوبولوس: نعم. القريتان اللتان بنيناهما تكلفتا نصف الميزانية بالكامل.

سيمون: أفترض أيضًا أن الإضاءة كانت طبيعية تمامًا لأن الزوايا كانت عريضة جدًا والتركيز شديد العمق بحيث سيكون من المستحيل إضاءتها بشكل غير طبيعي.

أنجلوبولوس: أثناء النهار، لا أستخدم الضوء الصناعي أبدًا. دائمًا أختار السماوات ذات السحب الرمادية لأن الضوء يكون منتظمًا. عندما تعمل في الشمس، تحتاج إلى الضوء الصناعي لموازنة الظلال بالخارج.

سيمون: هل كانت هناك مناسبات كثيرة لم يكن بإمكانك التصوير فيها بسبب الشمس – أم ليست هناك شمس في الشمال أبدًا؟

أنجلوبولوس: كانت هناك بعض أيام فقط حيث كان يجب علينا أن ننتظر وننتظر. إنه حقيقي أن هذه العملية بالكامل كانت مخاطرة كبيرة. لكنها كانت الطريقة الوحيدة لتنفيذ هذا. وإلا، كان يمكن أن نستسلم ونقلع عن الأمر.

سيمون: سيكتب النقاد على الأرجح أن الفيضان هو رمز لانحلال أو فناء القرية التقليدية، والمجتمع الريفي.

أنجلوبولوس: لا أعرف ما الذي سيقولونه!

سيمون: لكنه موضوع تعود إليه مرارًا وتكرارًا في عملك. هل تحب محاولات النقاد تحليل الرموز الخاصة بك بكلماتهم الخاصة، أم تعتقد أن الصور بمفردها تكفي؟

أنجلوبولوس: شخصيًا، لم أحاول أبدًا أن أترجم الأمر بطريقة منطقية، مثل معادلة – هذا يعني كذا، فأنت بهذا تفقد الشعر. يجب على الفيلم في بعض الأحيان أن يتم تلقيه عبر الجلد وليس من خلال الرأس – بطريقة سحرية. إذا كان الفيلم جاهزًا بشكل واضح للانفتاح على هذا السؤال: فلا يمكنك أن تتلقى فيلمًا بطريقة سحرية إذا لم يكن شعريًا. بخلاف ذلك، يجب على الفيلم الذي يحترم نفسه ويحترم جمهوره أن يكون مفتوحًا على التفسيرات المختلفة.

سيمون: إنه لمن الصعب أن تحدد أو تعرّف ذلك “الاحترام”. هل تعني عدم شرح أو تفسير كل شيء بطريقة ملموسة – تاركًا الجمهور أن يعمل أو يقوم ببعض الجهد؟

أنجلوبولوس: إنه ما يطلق عليه “غموض أو التباس الواقع”. وهذا هو ما يضفي الشعر على أفلام بعينها ويخلق شعورًا خاصًا جدًا. في كثير جدًا من الأحيان يشاهد الناس فيلمًا ويجب عليهم أن يفهموا بالضبط ما يقال – إنه يمضي هناك، إنه يعمل كذا. لكنني أكثر مع الأفلام التي تحتفظ بقدر معين من السر ولا تبوح بسرها بسهولة.

سيمون: في هذا الفيلم، مقارنة بعملك السابق، تتبنى لغة أكثر مباشرة، أكثر تخطيطية. لماذا اخترت، في الغالب، ترك إحدى طرقك المميزة – تغليف التسلسل التاريخي والأحداث التاريخية المختلفة في لقطة واحدة؟

أنجلوبولوس: صحيح أن هذا الفيلم أكثر خطية. كان مخططًا له في الأصل أن يكون فيلمًا واحدًا، يمتد لخمس ساعات أو أكثر، ولم تكن هذه الساعات خطية على الإطلاق. إلا أنه لم يكن بإمكاني تصويره. كان سيكون مستحيلا. لذلك قررت عمل ثلاثة أفلام. الأول خطي. والثاني ليس كذلك.

سيمون: والثالث؟

أنجلوبولوس: من يعرف.

سييمون: كنت قد قلت سابقًا أننا كلنا، كمجتمع، كلما أصبحنا أكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية تخلينا عن وضوح معين – وضوح الضمير. أعتقد أن هذه الفلسفة قد تم التعبير عنها بقوة في الفيلم. هل تعتقد أن هذا ينطبق على السينما نفسها كوسيلة أو كمحتوى؟

أنجلوبولوس: فيما يتصل بتكنولوجيا بعينها، نعم. رأيت عدة تجارب متعلقة بالتكنولوجيا الرقمية في اليابان. لم أجد المهارة والبراعة، وتنوع أو تغير الألوان وعمق المجال الموجود في بكرة فيلم. في غضون سنوات قليلة، عندما يتقدم تطور التكنولوجيا الرقمية، ربما سنرى نتائج مدهشة – لكن لم نر هذا حتى الآن.

سيمون: أعتقد أن هذا التطور سيعرض رؤيتك للخطر. هناك لغز في عملك – علاقة مع الماضي، والتاريخ – ستعرضه فورية الوسيلة الرقمية للتدمير.

أنجلوبولوس: بكل ما في الكلمة من معنى. مع التقنية الرقمية، هناك شعور دائم بأن هذا كله له علاقة بنقل أو توصيل المعلومات. بخلاف الطبيعة المادية جدًا لبكرة الفيلم. في بعض الأحيان، عندما تكون بكرة الفيلم المسجلة في حالة تطور داخل المعمل، أدخل إلى هناك من أجل الاستمتاع بالراحة فحسب.

سيمون: هل يوجد هناك أي من المخرجين المعاصرين تحبهم؟

أنجلوبولوس: لا يمكنني فعلا أن أتحدث عن المخرجين. يمكنني أن أتحدث عن السينما. هناك أفلام بعينها تثير اهتمامي. (توقف طويل). الشعور بمشاهدة شيء ما غير معقول للمرة الأولى. (توقف). أتذكر عندما شاهدت أول فيلم لـ”تاركوفسكي“. كنت وقتها في “نيودلهي” – ولم أشاهد من قبل فيلمًا لـ”تاركوفسكي“. شاهدت “ستالكر”. كان العرض قد تم تنظيمه لي خصيصًا. كانت هناك ترجمة إنجليزية. إنجليزيتي فظيعة، لذا جلست زوجتي بجواري تهمس لي بالترجمة. كانت تجربة غير عادية. أتذكر ذات مرة في التليفزيون، أنني شاهد فيلم “الكلمة” للمخرج “دراير”، لم أره منذ فترة طويلة، سنوات طويلة. لم أتمكن من النوم تلك الليلة. في هذه الأيام، نادرة مثل هذه التجارب. الآن ها أنا مستلق في سريري لسنوات دون أن يجافيني النوم ولن ترضيني أبدًا أنصاف الحلول. سأنتظر تجارب مثل هذه.

سيمون: أشعر أن فيلمك الأخير ربما هو الأكثر خطورة بين جميع أفلامك – على مستوى التصوير الخاص بالفيلم وأيضًا الرؤية السوداوية المرتبطة به. هل كلما تقدمت في السن وفهمت الحياة أكثر – أو ربما بدرجة أقل – تواجهك صعوبات أكثر في التعبير في أفلامك عن قدر ما من الحقيقة؟

أنجلوبولوس: نعم. صعوبة أكثر وأكثر. أعتقد أنه يجب علينا أن نسأل أنفسنا باستمرار، مرارًا وتكرارًا. إنه السؤال الذي طرحته في فيلم “تحديقة عوليس”: هل مازلت قادرًا على الرؤية؟ مثل أول مرة وضعت فيها عيني على الكاميرا، أول مرة اكتشفت فيها العالم من خلال عدسة الكاميرا، هل مازالت لديّ براءة التحديق التي كنت عليها في البداية؟

 

* نشر في مجلة “Close-up Film” عدد نوفمبر 2004 – المترجم.