محمد هاشم عبد السلام
ولد المؤلف الموسيقي وعازف البيانو الروسي الشهير سيرجي رخمانينوف في الأول من أبريل عام 1873. وبمناسبة مرور 150 عامًا على ميلاده أعلنت وزارة الثقافة الروسية عن احتفالية ضخمة، على مدار العام، بعنوان “أيام رخمانينوف 2023”. من بين ما يتضمنه برنامج الاحتفالية إقامة نحو 26 حفلة موسيقية في 6 قاعات تابعة لفيلهارمونية موسكو. كما أعدّ “المتحف الوطني الروسي للموسيقى” معرضًا خاصًا لصور رخمانينوف الفوتوغرافية، منها ما يُعرض لأول مرة. بعيدًا عن روسيا، لا يزال الاحتفال جاريًا بالموسيقي العظيم وأعماله في مختلف الفيلهارمونيات ودور الأوبرا حول العالم. أمريكا، واستراليا، وألمانيا، وبلجيكا، وإنجلترا، ومصر. وأيضًا في سويسرا، حيث جرى التخطيط، بالاشتراك مع مؤسسة “سيرجي رخمانينوف”، ومقرها منزل الموسيقي على ضفاف بحيرة لوسيرن، لفعاليات ومبادرات عديدة. من بينها، إطلاق أحد المواقع الإلكترونية الجديدة، ويحتوي على مجموعة من الصور المتميزة والنادرة. وأيضًا، قاعدة بيانات ضخمة مليئة بالمقالات والدراسات القديمة والحديثة متاحة للباحثين والمحبين حول العالم.
ولد سيرجي رخمانينوف بالقرب من بحيرة إيلمين في مقاطعة نوفجورود، في مزرعة مملوكة لأجداده. كان والده فاسيلي أركاديفيتش ضابطًا متقاعدًا، ووالدته ليوبوف بيتروفنا ابنة لجنرال سابق. كان مقدرًا لرخمانينوف أن يصبح ضابطًا في الجيش، لكن والده بدد ثروة العائلة بالكامل على القمار والسكر والنساء، وما لبث أن هجر أسرته بعد ذلك، وكان سيرجي وقتها في التاسعة من عمره. كان أحد أقرباء رخمانينوف، ألكسندر سيلوتي، واحدًا من كبار عازفي البيانو، وقائدًا موسيقيًا مشهورًا في ذلك الوقت. أحس ألكسندر بقدرات الشاب وموهبته المبكرة، فاقترح إرساله إلى موسكو ليدرس البيانو. وقد تلقى رخمانينوف تعليمه الموسيقي بعد ذلك على يد ألكسندر عندما التحق رسميًا بكونسرفتوار موسكو.
تخرج رخمانينوف من الكونسرفتوار في سن التاسعة عشر. بدأت شهرته تذيع كمؤلف موسيقي وعازف بيانو واعد بتأليفه “بريلود في مقام سي صغير”، والذي عزفه لأول مرة على الجمهور في سبتمبر 1892. وقد فاز، بعد ذلك، بالميدالية الذهبية لتأليفه أوبرا من فصل واحد بعنوان “أليكو”، عن قصيدة “الغجر” لألكسندر بوشكين، عُرِضَت على مسرح البولشوي عام 1893. حضرها الموسيقي الكبير بيتر تشايكوفسكي. وأثنى على العمل، وتنبأ لمؤلفها الشاب بمستقبل كبير.
لم تكن طبيعة رخمانينوف النفسية والعاطفية على قدر كبير من الصلابة، والتوازن، والثقة بالنفس. تسبب هذا في تعرضه لأزمات نفسية عاصفة، ونوبات طويلة من الاكتئاب الشديد كادت تدفعه إلى التوقف التام عن التأليف الموسيقي. من أقوى النوبات التي تعرض لها تلك التي أعقبت إخفاق العرض الأول لسيمفونيته الأولى “في مقام دي صغير” (1897). إذ عُزِفَت بصورة رديئة، بسبب حالة السكر التي كان عليها القائد والمؤلف الموسيقي المعروف ألكسندر جلازينوف. ما دفع النقاد إلى إدانتها، وانتقاد مؤلفها بصورة لاذعة. المثير للسخرية، أن هذا العمل، وذلك عقب وفاة رخمانينوف، صفق له الكثيرون من مؤرخي ونقاد الموسيقى كأكبر مساهمة منه أسديت إلى الأدب السيمفوني. نظرًا إلى براعة التكوين السيمفوني للعمل، وتأليفه الموسيقي شديد الأصالة.
أثناء تلك الفترة أيضًا، عانى رخمانينوف من الاكتئاب بسب علاقته التعيسة بابنة عمّه ناتاليا ساتينا، عازفة البيانو، ومن تعنُّت الكنيسة الأرثوذكسية تجاه زواج الأقارب. ما اضطره بعد 3 سنوات من الخطوبة أن يلجأ إلى إحدى الكنائس العسكرية لإتمام مراسم زواجه بها. أثناء ذلك، ذهب رخمانينوف إلى الطبيب النفساني نيكولاي دال، الذي نجح إلى حد بعيد، إلى جانب الأديب الروسي الكبير ليو تولستوي، في استعادة المؤلف الموسيقي الشاب لثقته بنفسه. وإن كان الفضل الأكبر يرجع إلى طبيبه دال الذي شجعه على كتابة “كونشيرتو البيانو الثاني”، الذي أهداه إليه رخمانينوف. وكان من بين أقوى وأهم وأمتع ما ألَّفَه.
لا شك أن سيرجي رخمانينوف أسيء فهمه بدرجة كبيرة. سواء على المستوى الشخصي أو المهني. فالشخصية التي كانت تبدو انطوائية بغيضة للبعض، وكئيبة جدًا بسبب الأحزان الشديدة للبعض الآخر، أعطت انطباعًا غير جيد عنه، وعن تكبره البالغ. الحقيقة كانت على العكس تمامًا. صفات مثل الدفء، والاهتمام بالآخرين، والتفكير فيهم، تبدو غير متوقعة أو غير صحيحة في رأي من عرفوه بشكل سطحي فقط. لكن أفراد أسرته، وأصدقاؤه القدامى، ومن شاركوه العزف أو عملوا تحت قيادته، يؤكدون تمتعه بهذه الصفات، وأكثر.
مهنيًا، وكمؤلف موسيقي تقدمي، كان رخمانينوف موضوعًا لنقاش وسجال طويلين بخصوص تلك النقطة. وذلك لفترة طويلة أثناء حياته، أو حتى بعد وفاته. كانت القضية أن رخمانينوف لم يكن من الثائرين على كل ما هو قديم، ولم يكن من دعاة تحطيمه. من يتبنون وجهة نظر طليعية حداثوية ينظرون إلى موسيقاه بتشكك نوعًا ما، رغم اعترافهم بقوتها، وتأثيرها العاطفي. اتهام النقاد له بعدم تعبيره عن العالم بالكيفية التي يعبر بها المعاصرين له، كان صحيحًا. لكن عالم رخمانينوف كان عالمًا خاصًا جدًا به، كغيره من الفنانين الحقيقيين. كان عالمه تعبيرًا خالصًا عن نفسه. وكانت هذه النفس نتاجًا لزمنه الخاص به. ووفقًا لمصطلحاته وشروطه هو.
المُثير أن الاتهام السابق نال حتى من يوهان سيباستيان باخ، إذ كان يُعاب عليه نفس الشيء. وربما بدرجة أكبر من رخمانينوف. القليلون جدًا من المؤلفين الكلاسيكيين يمكنهم الصمود ضد هذا المعيار الانتقادي. أو النموذج النقدي الذي يوصمهم بالتقليدية أو عدم الحداثة أو مجاراة الموضة. الحقيقة، إن استمعنا إلى أي مقطوعة عظمية لرخمانينوف سنجدها متجاوزة لزمنها. وفي نفس الوقت، شديدة الخصوصية والحداثة حتى، رغم أن أسلوب رخمانينوف التأليفي يُعتبر نتاجًا للفترة الرومانسية في نهايات القرن الـ19. وللتقاليد العريقة التي بدأت مع فيليكس مندلسون، وروبرت شومان، وفرانز ليست. وظلت متواصلة مع يوهانز برامز، وأنتونين دفورجاك وغيرهما. ومن هنا، لا يوجد فعلا ما يؤكد حتى اللحظة على أن موسيقاه أضحت عتيقة أو لم تعد مسموعة.
كعازف بيانو، كان سيرجي رخمانينوف عازف بيانو من الطراز الأول. ليس في عصره فقط، بل حتى بعد وفاته، وإلى الآن. التسجيلات المتاحة لحفلاته خير دليل على براعته الاستثنائية في العزف على البيانو، وشهرته المُستحقة فعلا. أداء رخمانينوف للكونشيرتو الأول والرابع يعتبر مثالاً على سحر وبراعة عازف البيانو. والرائع أن لدينا العديد من الأعمال الخاصة به التي عزفها بنفسه، أو أخرى عزفها لموسيقيين مثل شوبان، وبيتهوفن، وليست.
لا شك أن موسيقى رخمانينوف، نجحت، ولا تزال، في مخاطبة جمهور المتذوقين وحتى العازفين من مختلف الأعمار والأجيال. ظل الجمهور يفضّل في اختياراته من أعمال رخمانينوف للبيانو والأوركسترا كونشيرتو البيانو رقم اثنين، ورقم ثلاثة، ورابسودي على لحن لباجانيني. هذا الاختيار، المُجمع عليه وبشكل دائم، له وجاهته بالطبع. وإن كان عمله الخالد “كونشيرتو البيانو رقم 2 في مقام سي صغير”، والذي عزفه لأول مرة في موسكو في أكتوبر 1901، وجذب الانتباه بشدة إلى موهبته، هو الأكمل والأهم والأكثر شهرة. وإن ظلت لعنة هذا الكونشيرتو تطارده طوال حياته. وكانت افتتاحيته، تحديدًا، مطلوبة بشكل مستمر أو دائم من جمهور حفلاته.
عمل رخمانينوف أثناء فترة الثورة الروسية 1905 الأولى كمايسترو في مسرح البولشوي. ورغم مراقبته لأحداث الثورة، وعدم مشاركته السياسية فيها، إلا أنه ذهب مع عائلته عام 1906 للعيش في دريسدن. هناك، كتب ثلاثة من مؤلفاته الموسيقية الرئيسية: “السيمفونية الثانية في مقام إي صغير” (1907). والقصيد السيمفوني البديع “جزيرة الموتى” (1909). و”كونشيرتو البيانو رقم ثلاثة في مقام دي صغير” (1909). والأخير، ألفه خصيصًا ليعزفه أثناء جولته الموسيقية الأولى في الولايات المتحدة. وقد لاقى الكونشيرتو نجاحًا كبيرًا عندما عزف لأول مرة، بمصاحبة أوركسترا نيويورك السيمفوني. وبسببه ذاعت شهرت رخمانينوف أكثر، في شيكاغو وفيلادلفيا وغيرهما، كمايسترو برع في ترجمة أعماله الجديدة، وتقديمها كأفضل ما يكون. وأثناء جولته الموسيقية تلك دُعِيَ رخمانينوف لقيادة أوركسترا بوسطن السيمفوني بشكل دائم، لكنه رفض العرض، وعاد إلى روسيا عام 1910.
لأسباب عديدة، منها مشاكل وانقسامات داخل الحقل الموسيقي ذاته، وبعد الثورة الروسية عام 1917، ذهب رخمانينوف إلى منفاه الاختياري في الولايات المتحدة. حيث اتخذها وطنًا له حتى وفاته، رغم عدم إجادته للإنجليزية. وهناك، عاش حياة منعزلة إلى حد ما مع عائلته ودائرة صغيرة من الأصدقاء. كان يفتقد وطنه والشعب الروسي إلى حد كبير. وكان لهذا الاغتراب تأثيرًا مدمرًا على قدراته الإبداعية. وأدى إلى الحد من أو تقليص إبداعه، لكنه أعاد في تلك الفترة كتابة بعض أعماله السابقة. وكرّس نفسه بشكل كلي تقريبًا للعزف المنفرد، والقيادة الموسيقية في الولايات المتحدة وأوروبا. ومن أهم أعماله الجوهرية في تلك الفترة، مجموعة من الرابسوديهات للبيانو والاوركسترا (1934)، و”السيمفونية الثالثة” (1936).
إجمالا، كتب رخمانينوف على مدار تاريخه المهني 145 مؤلفًا موسيقيًا، منها كونشيرتات للبيانو وعدة سيمفونيات. توفي سيرجي في الثامن والعشرين من شهر مارس 1943. بعد أسابيع قليلة فقط من حصوله على الجنسية الأمريكية، وقبل خمسة أيام من بلوغه السبعين.