محمد هاشم عبد السلام – برلين
كاتب وناقد ومترجم
يرجع تاريخ بناء كاتدرائية برلين إلى 550 عامًا تقريبًا، وتحديدًا عام 1536 عندما أمر الأمير يواكيم الثاني عاهل براندنبورج بجعل كنيسة الدومينيكان المجاورة لقصره كاتدرائية وقبرًا للعائلة المالكة، وكانت في غير مكان الكاتدرائية الحالية لكنها بنفس الموقع بجزيرة المتاحف أمام “لوستجارتن” أو حدائق المتعة الشهيرة في حي ميتي. وظلت تلك الكاتدرائية حتى عام 1747، عندما وضع الملك فريدريش الثاني حجر بناء كاتدرائية جديدة في نهاية الطرف الشرقي من لوستجارتن، واكتمل البناء في عام 1750. وفي الفترة من 1817 – 1822 تم تكليف المهندس المعماري الشهير في تاريخ العمارة الألمانية، “كارل فريدريش شينكل” من قبل الملك فريدريش فيلهالم الثالث بتغيير البنية الداخلية والخارجية لإنشاء كارتدائية جديدة ثالثة. وبعد اقتراحات وتعثرات عديدة على مدى سنوات طويلة، جرى تقويض البناء عام 1893 – 1894. وفي 17 يونيو 1894 وضع القيصر فيلهالم الثاني حجر الأساس لكاتدرائية برلين الرابعة في مكانها الحالي الآن في لوستجارتن على ضفة نهر شبري. وقام بتصميمها المهندس المعماري الشهير “يوليوس كارل راشدورف” على الطراز الباروكي متأثرًا بأسلوب عصر النهضة الإيطالي، وجرى النظر إلى الكاتدرائية باعتبارها النظير البروتستانتي لكاتدرائية القديس بطرس الكاثوليكية في روما، ونجد بالفعل أن أبعاد الكاتدرائية تكاد تقترب من نظيرتها في روما، وتعتبر الأكبر حتى اليوم في برلين.
منذ افتتاح مبنى الكاتدرائية أو بالأحرى تكريسه في تلك الفترة وهو بمثابة مركز للبروتستانت الألمان، وكانت الكنيسة الصغيرة أو المصلى المحلق بها مخصص للعائلة المالكة، والكنيسة التذكارية المحلقة بها من الطرف الآخر الشمالي مكانًا لدفن سلالة الهوهنزولرن. وقد استمرت الكاتدرائية في أداء مهامها بشكل كامل حتى اندلاع الحرب. وفي الرابع والعشرين من مايو 1944، أشعلت قنبلة من النيران الملتهبة النار في القبة الرئيسية، وسقطت في وسط الكاتدرائية، وامتدت النيران عبر الأرضية إلى قبو أسرة الهوهنزولرن أسفل الكاتدرائية مسببة أضرارًا بالغة. مع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الكاتدرائية صورة مثالية للخراب، فقد ألحقت القنابل أضرارًا جمة بالمبنى، كما تركت الكاتدرائية عرضة للأمطار والثلوج والجليد، منذ مايو عام 1944.
في السنوات التالية كانت المهمة شاقة لمنع بقايا الحطام من التفتت والانهيار كلية. وكان سبب تلك المشقة أن الكاتدرائية أو حطامها صار في حدود برلين الشرقية، ولم يكن لدى تلك الحكومة أية مصلحة أو فائدة في استعادة ذلك الرمز الديني، بل دار حديث حتى عن هدم الحطام بالكامل، لكن الخبراء والحجج التي ساقوها والشعور العام بأهميتها، واعتبارات أخرى عديدة سياسية واقتصادية أفضت كلها إلى اتفاق بين حكومتي ألمانيا الشرقية والغربية للإبقاء على الكاتدرائية لكونها “نموذج تاريخي بارز”. وأثمرت المفاوضات بين حكومة ألمانيا الشرقية والكنيسة البروتستانتية في عام 1974 عن اتفاق بالمحافظة على الشكل الخارجي للمبنى، أي، تمثال المسيح الموجود بقوس النصر، الذي كانت تطلق عليه حكومة برلين الشرقية، الذي “لا يطاق أو لا يحتمل”، وكذلك الاقتباسات من الكتاب المقدس في الواجهة الغربية ومجموعة الملائكة حول قاعدة القبة. تدفق الدعم من حكومة ألمانيا الغربية والكنائس البروتستانتية الغربية وتبرعات أخرى، واعتمد “هيلموت كول” العديد من الشيكات الضخمة، وقد أنفق قرابة 65 مليون يورو على الترميم. ورغم ذلك كانت هناك بعض الخسائر المؤلمة: هدم ممر الرواق الملكي المتصل بالكاتدرائية وكذلك الكنيسة التذكارية، في حين تم ترميم القبة الرئيسية والقباب الأربعة الصغيرة على نحو خرجت معه على قدر كبير من البساطة عما كانت عليه.
الكاتدرائية من الخارج
ترى قبة الكاتدرائية الشديدة التميز من مسافة جد بعيدة. تلك القبة يعلوها فانوسًا، وفوقه كرة يعلوها صليب، وتلك الكرة مطلية بماء الذهب. وبهذا يبلغ ارتفاع الكاتدرائية الآن 98 مترًا فقط، بعد أن كان في الأصل قبل التدمير 114م، ويميز القبة وبقية الكاتدرائية إلا قليلا صدأ النحاس الأخضر الذي يكسوها. وكما هو في الكنائس التقليدية، تحتوي تلك الكرة على وثائق ترجع لوقت أو فترة البناء. في هذه الحالة، فإنها ترجع لعام 1981، عندما كانت ألمانيا مقسمة، وقد وضع بعض الألمان الشرقيين العديد من الصحف والأوراق النقدية، وبعض الصور الفوتوغرافية وقائمة بأسماء الشركات التي شاركت في العمل، كلها داخل تلك الكرة أثناء عملية إعادة البناء. كما توجد مجموعة من الصحف موضوعة بالفانوس (ليس فانوسًا بالمعنى الحرفي للكلمة، بالأحرى برج صغير)، ترجع لصيف عام 1981 تحمل تقارير عن “الاحتفالات” في برلين الشرقية بمناسبة الذكرى العشرين لبناء الجدار والاضطرابات العنيفة في برلين الغربية آنذاك.
يحيط بسفح القبة ثمانية ملائكة يحملون آلات عزف موسيقية. وكانت هذه الفكرة من بنات أفكار القصير فيلهالم الثاني ودليل على اهتمامه بالكاتدرائية، لدرجة أنه كتب رسالة بخط يده عما ينبغي أن تبدو عليه هيئتها وشرح وجهة نظره، وللتأكيد على تنفيذ تخيله على النحو المطلوب قام بنفسه برسمها بدقة بالغة في رسالة يرجع تاريخها لعام 1897. التاجان اللذان يعلوان قوس النصر الكبير ويتمركزان عن يمين ويسار تمثال المسيح كانا موضع جدل عما إن كانا ملكيين أم إمبراطوريين؟ حسم الجدال بأنهما ملكيين، على الرغم من أن الكاتدرائية بنيت بواسطة الإمبراطور، إلا إن القيصر فيلهالم الثاني، كان ملك بروسيا أيضًا، وهذا جعله الأسقف الأعلى لكنيسة الدولة. وكان التاجين أيضًا سببًا في خلاف جدي قبل توحيد ألمانيا، لأن الألمان الشرقيين كانوا يعتزمون إزالتهما بزعم الاستجابة لشكاوى الناس الذين عانوا في ظل حكم القيصر، لكن لم تكن هناك أدلة ملموسة تثبت صحة هذا، ومن ثم بقيا التاجين مكانهما.
يكثر بالجانب الغربي الأعمدة المتباينة الطول والسمك والأعمدة ذات التيجان، ومجموعة غنية من التماثيل والنقوش والصور، أبرزها تمثال السيد المسيح يبارك المدينة وسكانها، وهو مصنوع من النحاس بواسطة “فريتز سكابر”، وينتصب تحت ما يشبه قوس نصر يتوِّجه صليب مزخرف واثنين من الملائكة يتخذان وضعية تنم عن المهابة والتوقير. أسفل التمثال قوس نصر ضخم بعرض تسعة أمتار فوق المدخل الرئيسي. وداخل القوس فسيفساء ترجع إلى عام 1920 تقريبًا يعتبرها الخبراء مثالا بارزًا على الفن في أوائل القرن العشرين، قام بتصميمها “آرثر كمبف”، وتظهر المسيح ينطق بكلمات كما دونها متى الرسول، وهي مكونة من عشرات الآلاف من البلاطات الصغيرة. يعلو لوحة الفسيفساء هذه خرطوش، (cartouche)، أو لوحة بداخلها الحرفين الأول والثاني من الأبجدية اليونانية، يرمزان لبداية الخلق ونهايته، وهي محاطة باثنين من الملائكة، والعمل من تصميم “أوتو ليسينج”. كما يتصدر قوس النصر عن اليمين والشمال ملكين آخرين كبيرين، الأول يمسك بغصن زنبق يرمز للرحمة والآخر يحمل شعلة ترمز للحقيقة، من تصميم “فيلهالم فيدمان”.
الدرابزين الذي يعلو الكورنيش الرئيسي للكاتدرائية ينتصب فوقه من الأربع جهات عشر تماثيل نحتية من الحجر الرملي لتلاميذ المسيح، وقد نحت كل تمثال منها نحات مختلف. وكما نعرف، تلاميذ المسيح 12 تلميذًا، فماذا عن الاثنين الآخرين وتحديدًا، متى وجون؟ نجدهما بالأسفل على جانبي المدخل الرئيسي، مع تمثالي المبشرين مارك ولوقا، متى مع مارك إلى اليسار، وجون مع لوقا إلى اليمين، وقام بنحت شخصيتي كل من التمثالين نحات مختلف وهما من مادة النحاس. والقاعدتان اللتان تقف عليهما الشخصيات الأربعة أو التمثالين، تزينهما لوحتين منقوشتين من البرونز، تعرضان مشاهد من حياة وأعمال مارتن لوثر.
للكاتدائية أربعة أبراج في زواياها عند قاعدة القبة، تلك الأبراج تحمل الأجراس، أهم هذه الأبراج، البرج الجنوبي الشرقي تحديدًا، الذي تواجدت به عدة أجراس لها تاريخها ولعبت أدوارًا في أوقات تاريخية مختلفة، وللأجراس أسماء ألمانية صعبة النطق والكتابة، لذا سنطلق عليها أرقامًا. الأول ويرجع تاريخ سبكه إلى عهد جد بعيد، تحديدًا عام 1532، أي، تاريخ بناء أول كاتدرائية وقد خدم بالفعل في كاتدرائيات برلين الأربعة. وقد دق تعبيرًا عن الحزن لوفاة أربعة آلاف برليني جراء الطاعون عام 1576، وتعبيرًا عن الخطر خلال حرب السنوات السبع (1756 – 1763) عندما احتل الروس والنمساويين المدينة مؤقتًا في غيبة فريدريك الأكبر، وفرحًا عندما أصبحت برلين عاصمة الإمبراطورية الألمانية المؤسسة حديثًا عام 1871. سُبك الجرس الثاني عام 1471، وقد تصدع عام 1920 أثناء جنازة آخر إمبراطورة ألمانية، لكنه تصدع مرة أخرى عام 1925، فخرج من الخدمة ووضع بأحد المتاحف البرلينية. وحل محله جرس جديد سبك عام 1929، وهو مزين بشعار النبالة وختم الكاتدرائية وكتب عليه “وردة بين الأشواك”. كما يوجد بأحد الأبراج جرس عتيق يرجع تاريخه لعام 1685، وقد أعيد صبه مرة أخرى وفقًا لشكله الأصلي في مدينة لوبيك عام 1913، ويستخدم الآن بشكل رئيسي في الدعوة للصلاة والمناسبات والاحتفالات الخاصة.
بالمقارنة مع الجانب الغربي، تعتبر زخرفة واجهة الكاتدرائية الجنوبية أكثر تقييدًا إلى حد كبير. الملامح الرئيسية للزخرفة عبارة عن تماثيل من الحجر الرملي للنحات “أوتو ليسينج” ترمز لفضائل المحبة والإيمان والأمل. ويمثل الأمل بواسطة تمثال يمسك صليبًا يسطع فوق قاعدة ثلاثية مع نقوش كتب عليها “المجد لله وحده”. ويجاور التمثال ملكين يحملان الخبز والكأس، في ترجيح لإشارة الفنان إلى قصة العشاء الأخير. ينتصب إلى اليسار قليلا من الصليب فوق قاعدة، تمثال المحبة، ملاك يمسك بكتاب منقوش عليه “الله محبة”، والتمثال الآخر إلى اليمين هو رمز الأمل، وقد صور ممسكًا بمرساة. ويحتوي الجانب الجنوبي أيضًا على المدخل المفضي إلى كنيسة المعمودية والزواج، ويتميز بابه بنقوش برونزية أبدعها “سيجفريد كريب” عام 1987 وتحمل عنوان “عودة الابن الضال”. وكذلك باب سفلي صغير يخرج منه زائر الكاتدرائية بعد إتمام زيارته، مرورًا بمحلات الهدايا والكتب والكافيتريا.
يشيد المعماريين المعاصرين بالجانب الشرقي من الكاتدرائية، ويرى من الضفة المقابلة لنهر شبري. يوجد بذلك الجانب من القبة محرابين بهما تمثالين من النحاس يرمزان للشجاعة نحت “والتر سكوت”، والآخر للعدل نحته “ماكس بومباخ”. يمسك تمثال العدالة بسيف في يمناه وكفتي ميزان في يسراه. وكان التمثالين مخصصين في الأصل للجانب الشمالي لكنهما ينتصبان هنا كبديلين للملكين اللذين دمرا أثناء الحرب. فوق درابزين السطح، تمثالين منحوتين من الحجر الرملي، أحدهما لموسى نحته “جيرهارد يانينسيخ” والآخر ليوحنا المعمدان نحته “أوغست فوجل”. فوق النوافذ الثلاثة المستطيلة للجدار المستدير للمحراب المطلة على النهر، توجد ملائكة تحمل دروعًا، وعلى هذه الدروع صليب يرمز للإيمان، وقلب يرمز للحب و، كما هو مرأي بالفعل في الواجهة الجنوبية، مرساة ترمز للأمل.
إلى أن تم هدمها بين عامي 1975/76، انتصبت الكنيسة التذكارية في الجانب الشمالي من الكاتدرائية الرئيسية. وكان القصد منها بالأساس أن تكون مكانًا لإحياء ذكرى الأسرة الحاكمة البروسية، وكانت تحتوي على ستة توابيت مزخرفة على نحو غاية في الثراء ومجموعة من المقابر. في الوقت الراهن، يشغل تلك المنطقة الصغيرة الخضراء الواقعة بين الكاتدرائية و”المتحف الوطني الجديد”، تمثالين يرمزان لأهم الفضائل الإمبراطورية: “الاعتدال” نحت “والتر سكوت”، و”الحكمة” نحت “جيرهارد يانينسيخ”.
بعد القيام بجولة كاملة حول الكاتدرائية من الخارج، ندخل الآن إلى المبنى نفسه. من الحديقة تفضي 19 درجة من الجرانيت إلى رواق مثير للإعجاب بطول 84م وعرض 9م. الأبواب الثلاثة البرونزية للمدخل الرئيسي تحمل نقوشًا لأوتو ليسينج تعرض مشاهد من حياة المسيح كما وصفت بالعهد الجديد. وفوق الباب المركزي الكبير، في المنتصف، نجد ملكين منحوتين راكعين بتواضع أمام الصليب. وفوق الباب الأيسر فسيفساء صغيرة على هيئة زهرة ذات أشواك، وفوق الباب الأيمن فسيفساء بها قلب صغير داخل وردة تحوطهما دائرة ذهبية صغيرة.
الكاتدرائية من الداخل
عند الدخول إلى صحن الكاتدرائية تطالعنا الأعمدة الكورنيثية والأعمدة ذات التيجان، والتماثيل، والنقوش، والرسومات والفسيفساء والزجاج الملون، والذهب والرخام في كل مكان. كذلك اللون العاجي الرقيق الذي طليت به الجدران، وكلها لا تلفت الانتباه عن عمد أو تباه، بل برقي وأبهة مما يساعد في ترسيخ الهدوء والسكينة والصمت على نحو غاية في الإجلال.
أول ما يلفت النظر بعد ذلك المذبح الموجود في الطرف الشرقي من صحن الكاتدرائية، بعرض خمسة عشر مترًا. ويحتوي الجدار الشرقي خلف المذبح على أرقى الأعمال الفنية في الكاتدرائية: النوافذ الزجاجية الملونة البيضاوية والمستطيلة من تصميم “أنتون فون فيرنر”. كانت النوافذ الأصلية مطلية بالأحمر والأصفر والأزرق باستخدام تقنية خاصة لكنها دمرت في انفجار قنبلة في ديسمبر عام 1940. مع ذلك، فإن مخطوطات الرسومات الملونة وكذلك المرسومة بالفحم، إلى جانب ما تبقى من النوافذة ذاتها، مكنت شركة الترميم من إعادة تصميمات فون فيرنر حول المذبح، والتي صورت العناصر الرئيسية في العقيدة المسيحية من مولد المسيح وحتى الصلب. وعندما يسطع ضوء النهار اللطيف على خلفية النوافذ الزجاجية فإنها تشرق على نحو بديع، فتبدو نوافذ المذبح كأنها لوحات زيتية ألوانها غاية في الطزاجة.
يعلو المذبح قوس ضخم، في قمته خرطوش يمسكه ملكين، واللوحة بداخله تحمل عبارة “تصالحوا مع الله”، وتحته في القنطرة ذاتها، كرتيدتين صغيرتين – الكرتيدة تمثال لامرأة يقام في عامود أو قوس مبنى ما – لامرأتين بجلبابين طويلين، يفصل بينهما إطار بداخله نقوش ذهبية لرموز دينية كطائر الفينق رمز الخلود، والأسماك رمز الحياة والخصوبة وإكليل الغار رمز الانتصار والبجع رمز حب التضحية بالذات وغيرها من الرموز البارزة في الفن المسيحي.
سبع درجات تؤدي إلى المذبح أو الهيكل ذاته. والمذبح والدرجات السبع مكسوين بسجادة حمراء ثمينة تحاكي القديمة. ويتكون المذبح نفسه من سطح من الرخام الأبيض يدعمه ثمانية أعمدة مشوبة بالأصفر، وصممه عام 1850 النحات “فريدريش أوجست شتيلر”. وثمة حاجز أو فاصل من الخشب المذهب من تصميم المعماري شينكل نحت بداخله تماثيل لتلاميذ المسيح الاثني عشر، يحجب خلفه منطقة المحراب التي يمنع الزوار من التواجد بها، وينتصب بجواره اثنين من الشمعدانات الضخمة الذهبية البديعة من تصميم شينكل أيضًا.
ينتصب المنبر – منبر النسر بالألمانية – على يسار من المذبح، وكان هذا المنبر بكاتدرائية شينكل القديمة. وقد تم ترميمه بدقة بالغة عام 1980، واسمه مشتق من النسر الموجود به والمنقوش على الطراز الباروكي، والذي يرمز لمملكة بروسيا الجديدة، وقد وضع بين جناحيه المفرودين الكتاب المقدس. وليس مؤكدًا إن كان العماري الكبير “أندرياس شتولر” هو نفسه الذي نحت النسر في وقت لاحق بعد عام 1701، لكن المنبر المستخدم اليوم هو نسخة طبق الأصل: الأصل الذي لا يقدر بثمن موجود في متحف الكاتدرائية. والجديد من تصميم أوتور راشدورف، ابن يوليوس كارل، واكتمل عام 1907. وهو منحوت من خشب البلوط ومذهب جزئيًا، ويرتكز على قاعدة من الرخام الأسود.
يسهم الفانوس الموجود بسطح القبة في إضاءة صحن الكاتدرائية على نحو غامر. والقبة ذاتها ترتفع من الداخل فوق ثمانية أعمدة ضخمة من الحجر الرملي، ويبلغ ارتفاعها عن أرضية الصحن 70 مترًا. ويبلغ قطر القبة 33 مترًا، في حين يبلغ محوريها الطولي والعرض 56 مترًا. بالقبة 24 نافذة، طول كل منها عشرة أمتار، تسطع بألوانها الذهبية والبيضاء. وفي منتصفها حمامة ترمز للسلام بداخل شكل مثمن ومحاطة بدائرة تحملها ثمانية أعمدة عليها ملائكة، والزخرفة الرئيسية للقبة ذاتها تشغل مساحة 55 مترًا ارتفاعًا، فوقها نقوشًا بالألمانية لأقول المسيح. وقام بتصميمها الفنان والأستاذ أنطون فون فيرنر، مدير أكاديمية برلين للفنون، وبها ثمانية فسيفساءات كل واحدة منها تغطي 39 مترًا مربعًا، وكان ذلك بناء على إصرار وأمر ملكي من فيلهالم الثاني الذي أصدر مرسومًا بهذا عام 1900. لوحات الفسيفساء هذه تتكون من قرابة 500 ألف بلاطة صغيرة وأكثر من 2000 لون مختلف، و16 طنًا مختلفًا من الذهب، وهي تعتبر من وجهة نظر الخبراء من أفضل أعمال الفسيفساء على مستوى العالم. وقد نجت بأعجوبة من الدمار أثناء الحرب، لكنها راحت تتدهور تدريجيًا وعلى نحو مؤكد عام 1945 جراء التدمير الذي لحق بأعلى القبة، فراحت قطعها تتساقط بسبب عوامل التجوية وهطول حطام أعلى القبة على مر السنين، وقد تم تجميع قطع الفسيسفاء المتساقطة هذه على مر السنين وفرزها وتصنيفها إلى أن حان وقت إعادة الترميم فأعيدت إلى أماكنها، وقد تم الترميم بين عام 1996 وحتى 2002. وبالرغم من عدم ضياع هذه البلاطات الصغيرة إلا إن إعادتها لأماكنها الأصلية لم يكن ممكنًا لولا الاحتفاظ بالرسومات الفحمية والملونة الأصلية لها ونجاتها أثناء الحرب. ويعلو هذه الفسيفساءات زخارف جصية ذات أشكال بديعة.
على العكس من معظم الكنائس الكبرى أو الكاتدرائيات الأخرى، لم يصمم صحن الكاتدرائية ككنيسة طولية ذات صحن طويل، بل إن المساحة المركزية تشكل ثمانية أضلاع أو مثمن غير منتظم تحيطه الأعمدة وتتسع هذه المساحة لجلوس 1619 زائر فوق مقاعد طويلة من البلوط. على الأجناب الطويلة من المثمن يقع المذبح، والرواق الجنوبي، والرواق الإمبراطوري، والشرفة أو الدور العلوي الموجود به الأرغن. وينتصب المنبر في الجزء الشمالي الشرقي شبه الدائري بين المذبح والأرغن.
يطلق العاملون بالكاتدرائية على الأرغن “السيدة العجوز”، ويطلق عليه مؤرخو الفن “البالغ الجمال” ويعتبرونه أحد أجمل وأهم الآلات الموسيقية في العالم الباقية من العصر الرومانسي. وهو أكبر أرغن على الإطلاق بناه صانع الأراغن “فيلهالم سوير”، ويشغل الدور العلوي بالكامل من الجزء الشمالي بالكاتدرائية، وقد صممه على طراز عصر النهضة الألماني أوتو راشدورف ابن يوليوس مصمم الكاتدرائية، والصندوق أو الكساء الخاص به مصنوع من البلوط، ويبلغ ارتفاعه 20 مترًا وعرضه 14 مترًا على وجه التقريب. لحقت بالجهاز أضرارًا جراء إطلاق النيران التي سبقت وتلت نهاية الحرب العالمية الثانية، وسرقت الكثير من أنابيبه وبيت في السوق السوداء. وقد اكتمل ترميمه عام 1993، بتكلفة 600 ألف يورو، ولديه الآن 7269 أنبوب، و113 زر للتحكم في مجموعات الأنابيب، وأربع لوحات مفاتيح، ودواسة واحدة، ويقول الخبراء إن له نفس الخصائص النغمية المميزة لأوركسترا سيمفوني بأكمله. ويوجد بالجزء العلوي من الجهاز تمثال ذهبي للملك داود، وآخر للملك داود نفسه كصبي صغير يعزف على آلة الهارب للملك سليمان. والسقف القوسي الخاص بالدور العلوي للجهاز مزين بفسيفساء دينية تلمع بألوان زاهية يظهر السيد المسيح في منتصفها.
في الوقت الراهن تضم الكاتدرائية ست توابيت مهة تاريخية وفنيًا. وكانت هذه حتى عام 1975/76 موجودة في الكنيسة الملحقة التي هدمت أثناء التجديد، وأقدم تابوت هو للأمير “يوهان شيشرون”، يقع تحت الدور العلوي الموجود به الأرغن، ويعتبر هذا التابوت هو الأقدم وكان موجودًا بالكاتدرائيات الأربعة، وهو مطلي بالبرونز وأبعاده 3م طول و1.17م ارتفاع، وصنع في نورمبرج عام 1530. ويرتفع التابوت فوق ستة ركائز، على طراز عصر النهضة، كل ركيزة أو دعامة على هيئة أسد في وضعيات مختلفة. ويعلو غطاء التابوت نحت بارز للأمير بلحيته وكامل بذته الحربية ويحتضن سيفه ويحيط بلباسه عباءة من الفراء ورأسه مستندة لإحدى الوسائد، واللوح مزخرف من أعلى أيضًا بعبارات للأمير كتبت بأحرف قوطية. أيضًا تحت الأرغن تابوت من الرخام الأبيض للقيصر فريدريش الثالث، الذي توفي عام 1888، بعد 99 يومًا فحسب من الحكم بس المرض، ويشبه تزيين تابوته نفس طريقة التزين البارزة للتابوت السابق.
المساحة الواقعة إلى اليسار تحت الدور العلوي للأرغن يوجد بها تابوت الأمير فريدريش فيلهالم وزوجته دورثيا فون هولشتاين، بدن التابوت ذاته يتسم بالصرامة، لكن الزخرفة الذهبية البديعة المزينة له من كل جهة مثيرة للإعجاب حقًا، وهو مرتفع عن الأرض بواسطة تماثيل صغيرة ذهبية لمحاربين مهزومين ومجروحين عند كل زاوية وفي المنتصف مجموعة من الأسود. والنقوش الأخرى الذهبية الموجودة على جوانب التابو تصور انتصارت الأمير في معاركه. أما التابوت الخاص بزوجته فأيضًا مزين بالذهب ومحمول فوق أربعة أسود، ومزخرف بثمانية عشر طفلا منحوتًا وثمانية بجعات وأوراق نبات الأكانتس والغار وسعف النخيل وأكاليل الزهور، ومجموعة من التيجان.
عن يمين ويسار المدخل المفضي إلى كنيسة التعميد والزواج الصغيرة ثمة تابوتين آخرين، يطلق عليهم المتخصصين أوصافًا مثل “الروعة المسكرة”، و”ذروة الطراز الباروكي”، و”قطعتين فنيتين استثنائيتين”. الأول، إلى اليسار لملك بروسيا الأول، فريدريش الأول. صممه في القرن الثامن عشر النحات البارز وأستاذ العمارة أندرياس شلوتر وصب في سبيكة من القصدير والرصاص بواسطة يوهان جاكوبي. ويلف انتباه المشاهد مؤخرة التابوت حيث جلست امرأة تنتحب مغطية وجهها بيديها وبجوارها صبي صغير شبه عار “بوتو” (رسم ونحت كثيرًا، خاصة في الأعمال الفنية لعصر النهضة الأوروبي)، يلهو بلعبة فقاعات الصابون ويطلقها في الهواء، في رمز للزوال والذهاب. التابوت الثاني لزوجته الثانية صوفي شارلوت، وكان آخر عمل نحتي لشلوتر في برلين منهيًا أو مختتمًا به حقبة مشرقة من الإنجازات الفنية في تلك الفترة. وتابوت الملكة أكثر زخرفة من الخاص بزوجها. بالطبع هناك الفتيات اللاتي يشكلن القاسم الأعظم في الزخرفة بين نعشها ونعش زوجها، وكذلك النسر رمز الدولة البروسية، وهو هنا ينشر أجنحته مطوقًا زوايا النعش الأربعة، وإلى جانبه مجموعة من الأحصنة ومشاهد من حياة الملكة. واللافت بين كل هذه المنحوتات البديعة، نحت صغير لملك الموت متشح بعباءة ولا يظهر منه سوي العظام الهيكلية لقدمه ويده الممسك بها كتابًا يسجل فيه اسم الملكة في كتاب الخلود. وكل هذه المنحوتات الحزينة المطلية بالذهب على أغلب التوابيت قصد منها تذكير الناظرين بأن جميع الناس بما فيهم الملوك المتوجين والفاتحين العظماء يموتون ولا يخلدون.
مصلى المعمودية والزواج والدرج الإمبراطوري
كانت لحظات رائعة للبرلينيين ترددهم على الكنيسة الصغيرة، مصلى المعمودية والزواج، وهي مكان مستقل منفصل خاص بالزواج والصلاة والتعميد، عندما أعيد افتتاحها في 29 يونيو عام 1980، وإمكانية إقامتهم للصلوات ومراسم الزواج أثناء إعادة إعمار الكاتدرائية. يبلغ طولها 18 مترًا وعرضها 9 أمتار، ذات سقف برميلي مقبب ورواق على أحد الأجناب. ومساحتها تتسع لمئتي فرد وتختلف إلى حد كبير وملحوظ ككنيسة عن الكاتدرائية ذاتها. مصدر الضوء بالكنيسة يأتي عبر نوافذ الرواق والكوات وكذلك ثريتين أنيقتين كبيرتين تتدليان من السقف تبرع بهما المهندس المعماري راشدورف بمناسبة التكريس عام 1905.
أول ما يلف النظر في تزيين الكنيسة، زخارف الكوة التي تصور يدين متشابكتين وفوقهما الكلمة اللاتينية “فيدس”، بمعنى الثقة، في إشارة إلى دور الكنيسة باعتارها مكانًا لاحتفالات الزواج، وتجسد هذه الوظيفة خير تجسيد لوحة “عرس قانا” فوق أحد الجدران للفنان “ألبرت هيرتل”، وثمة لوحات أخرى بالكنيسة لنفس الفنان. وأكثر اللوحات أهمية وقدمًا تلك اللوحة الزيتية الكبيرة للفنان “كارل بيجاس الأكبر” التي رسمها بتكليف من الملك البروسي فريدريش فيلهالم الثالث، ويرجع تاريخها لعام 1820، وكانت مخصصة لكاتدرائية شينكل، وهي للمسيح وتلاميذه محيطين به.
صنع المذبح الجديد من الرخام الأحمر والبني المأخوذ من حطام الكنيسة التذكارية التي هدمت عام 1975/76. وكان المذبح الأصلي الذي صنع للكنيسة عام 1905 من الخشب المنقوش، وقد اختفى دون أثر في وقت ما بعد الحرب في سنوات السبعينيات. على جانبي المذبح شمعدانان قيمان يشكلان قطعتين فنيتين فريدتين وقد أهديا للكنيسة عام 1905. اللون البني اللامع المائل للحمرة الشفافة المهيمن على كافة الأسطح بالكنيسة الصغيرة يخلق جوًا شديد الخصوصية مقتصرًا عليها دون بقية الكاتدرائية. يوجد بالكنيسة أرغن صغير، مقارنة بذلك الكبير الذي للكاتدرائية، وكان أول أرغن يبنى بعد الحرب، وقد نفذه “ألكسندر شويك”، وكان يستخدم منذ عام 1946 في السرداب الصغيرة الخاص بكنيسة الكاتدرائية، حيث عقدت أول صلاة بعد الحرب.
على بعد خطوات من مصلى المعمودية والزواج نجد الدرج الإمبراطوري بتفاصيله الدقيقة البديعة ومفرداته الفخمة. افتتح أبوابه للجمهور في 30 يونيو عام 1989 بعد ترميم شامل، عند مقدمته ينتصب شمعدانًا شجريًا مذهبًا ذي عشرة أذرع عند قاعدته نسرين يتأهبان للطيران، وفي قمته نوع آخر صغير من الشمعدانات مزين برؤوس أسود ورموز مسيحية. ويعلو سقف الدرج المقبب مجموعة من الأقواس المزينة بزخارف ملائكية من الجص المطلي بالذهب، كما تطالعنا اللوحات الزيتية فوق جدرانه الصاعدة المكسوة بالرخام الفريد في ألوانه البنية والرمادية والبيضاء.
السرداب
يحتوي السرداب تحت كاتدرائية برلين على 94 تابوتًا يمتد تاريخها لخمسمائة عام منذ نهاية القرن السادس عشر وحتى بداية القرن العشرين. وبهذا فإن الكاتدرائية، إلى جانب التوابيت الستة الموجودة بأعلى في صحنها، تحتوي على 100 تابوت، ترجع لأسرة الهوهنزولرن وهي السلالة التي أثرت بشكل حاسم في تاريخ ألمانيا وأوروبا بصفة عامة، منها 9 توابيت لأشخاص كانوا ملوكًا لبروسيا، وثلاثة كانوا قياصرة لألمانية.
الأنماط الخاصة بالتوابيت الموجودة بالسرداب متنوعة للغاية، بعضها لفنانين كبار معروفين وأخرى لمجهولين، بعضها مزين بالخيول والبجع والنسور والأسود والزهور وأفرع الغار وسعف النخيل، والبعض الآخر بسيط للغاية بل شديد التجريد أحيانًا. يرتفع سقف القبو – أرضية صحن الكاتدرائية – فوق 51 عامودًا من الحجر الرملي ذات لون بني فاتح، والأرضية ذات لون ذهبي يميل للبني من الحجر الجيري، وجميع النعوش محاطة بسياج حديدي أسود عليه لوحات مُرقمة تحمل أسماء الراحلين الذين لكل منهم قصة تروى ودور في التاريخ الألماني. وجدير بالذكر أن التابوتين الرخاميين اللذين يحملان الحرفين “سي” و”دي” يشيران إلى رفات الملكة صوفي تشارلوت وزوجها الملك فريدريش الأول، الأمر الذي يعني أن التابوتين الآخرين الفريدين في صنعها وزخرفتهما والموجودين بأعلى في الكاتدرائية فارغين. ويذكر أيضًا أنه ليس جميع ملوك وقياصرة ألمانيا موجودين أو مدفونين بهذا السرداب.
ممشى القبة
على الرغم من عدد الدرجات البالغ 270 درجة تقريبًا وعدم وجود مصعد، إلا إن الصعود إلى القبة يستحق العناء. في الواقع، ثمة أشياء كثيرة يطالعها المرء أثناء الصعود، من الصور والنقوش والنصوص على الجدران التي تحكي بالصور قصة إعادة إعمار وترميم وصيانة الكاتدرائية منذ عام 1975 وحتى يومنا هذا. وأثناء الصعود يمر الصاعد بنقطة أو محطة أولى مهمة يتوقف عندها للالتقاط الأنفاس وهي متحف الكاتدرائية الجديد، الذي افتتح في نوفمبر عام 2005، بمجموعته الفريدة المثيرة للاهتمام والآخذة في الاتساع عامًا بعد الآخر. يوجد بالمتحف النماذج القديمة للكاتدرائية، وكذلك النموذج الحالي، ونماذج أخرى من تصميم أوجست شتولر لم تبن أبدًا، وثمة نماذج للأجزاء الداخلية من الكاتدرائية الحالية، وكذلك الكنيسة التذكارية والدرج الإمبراطوري، كما يوجد بالعرض قطع كانت تزين القبة الأصلية قبل تدميرها. نقاط التوقف الأخرى توجد على أجناب طريق الصعود الذي ما ينفك يضيق كلما أوغلنا في الصعود، وعبر نقاط التوقف هذه يمكن للمرء رؤية التماثيل والملائكة والأجراس الخارجية عن قرب شديد، وكذلك التطلع، من الجانب الآخر، عبر كوات القبة إلى، صحن الكنيسة ذاته من الداخل.
بعد آخر 100 درجة من الحديد الصلب يجد الزائر نفسه وقد خروج إلى الممشى الدائري، ويرى برلين تحت أقدامه. يحيط الممر بالقبة على نحو دائري بطور 110م، ومنه تجد نفسك أيضًا فوق الملائكة المزينة للكاتدرائية والتماثيل وأبراج الأجراس، ويرتفع الممشى 50م فوق مستوى سطح الشارع ويتيح رؤية بارنورامية رائعة لبرلين، وبالطبع لجزيرة المتاحف والنهر، وأقدم حديقة في برلين، لوستجارتن، أمام الكاتدرائية، التي يرجع تاريخها على الأرجح لعام 1573، والنافورة الواقعة بمنتصفها، والتي نحتت من كتلة واحدة من الحجر الجرانيتي عام 1827، ويبلغ وزنها 75 ألف كيلو.