محمد هاشم عبد السلام

 

في هذا المرجع التشكيلي الضخم، يدعونا الفنان التشكيلي الكبير الرائد والمنظر السويسري بول كلي، الذي قال عنه الناقد الكبير هربرت ريد: “الثلاثة الكبار في الفن الحديث، هم بيكاسو وكاندنسكي وبول كلي، ولكن بول كلي يحتل موقفًا خاصًا بينهم، لأنه قام بإنجاز نقلة كبيرة في إبداعه، جعلته الفنان الأكثر اقتدارًا و تجسيدًا للحداثة”، يدعونا إلى السفر معه إلى عالم التشكيل، وترك عالم الأشكال والكميات وأبعاد الثلاثة والفراغ المنطقي، ذلك لأنه يريد لنا الوصول إلى منطق آخر مغاير ألا وهو منطق الخلق، منطق اكتساب الشكل لملامحه وطبيعته المفردة، فخبرة التشكيل أهم من الشكل النهائي، ومنطق الخلق أهم من شكل المخلوقات، والتجربة المفردة أهم من القانون. كل هذا هو مجرد جانب جوهري في هذا السفر الضخم وهو أيضًا جوهر تجربة بول كلي وجل ما سعى إليه طيلة حياته.

وهذا المرجع وما يحتوي عليه من كتابات ومحاضرات تمثل محصلة عصارة خبرة وتحليل وتجريب وممارسة بول كلي التشكيلية، وهي وفقًا لمقدمة المترجم، الفنان عادل السيوي، “كتابات ليست تعليقًا على تجربة بول كلي الإبداعية ولا هي خلاصة لها، بل هي جزء عضوي حي وفعال، من تجربة إبداع بول كلي نفسه، ولذا لا يمكن فصلها عن الرسومات المصاحبة لها. ولا يمكن إلا أن نتابع معها رحلتها الداخلية وتقاطعاتها المفاجئة ووقفاتها الحائرة، لأننا ندرك أنها كالعمل الفني تمامًا تملك تماسكًا داخليًا متينًا يسمح بالخروج والعودة، ويسمح بالانعطاف والدوران والرجوع مرة ثانية لنفس المناطق التي زارتها من قبل ولكن من زاوية أخرى، ونحن مطالبون كقراء بالمشاركة في هذه المغامرة”.

والنص ليس فقط مجرد تجربة إبداعية تنظيرية لأحد الفنانين الكبار، بل على العكس، إنه نص ثري جدًا منفتح على كافة العلوم والفنون الأخرى، أنه نص يتأمل الكون والعدم، والفوضى، والزمان والمكان، وقوة الجاذبية والطرد المركزي، ويتحدث عن خلق الوجود ودماره، كذلك يطلعنا بعمق على الضوء واللون والخط والطاقات الكامنة في كل منها على حدة أو معًا. كما سنجد أيضًا الأدب والموسيقا وعلم النفس والفلسفة والمسرح والتحليل النفسي وغيرها، كلها حاضرة بقوة في ثنايا الكتابة النصية أو عند التحدث عن لوحة، أو تكوين أو تشكيل، أو خط أو طبيعة الضوء، الخ. باختصار، إن هذا الكتاب، الذي يحتوي على أكثر من نصفه لوحات ورسومات واضحة ودقيقة ومنتقاة بعناية لتكمل دور النصوص وأحيانًا تكتفي بنفسها دون النص،  هذا المرجع هو بحق مغامرة تشكيلية جميلة، وأيضًا مغامرة لاكتشاف الكون والذات، وكل ما لا تنتهي حدوده، وقراءته، لابد وأن تحدث في القارئ نقلة ما، على مستويات كافة، أهمها من وجهة نظري، طريقة نظرنا إلى اللوحة الفنية وقراءتنا لها وإعادة النظر في فهمنا للفن التشكيلي وتذوقنا له، وفي النهاية توسيع مدى أفقنا، أو حتى على الأقل رفضنا لتنظيرية بول كلي ولمحاضراته التي تبدو أحيانًا مدرسية بعض الشيء.

حملت فصول الكتاب العناوين التالية: “مدخل إلى نظرية التشكيل”، “الطريق إلى الشكل”، “التشكيل والحركة”، “العلاقات اللونية”.

ولِدَ بول كلي PAUL KLEE في مونخ بوكسي 1879 قرب العاصمة السويسرية برن، وتوفي في مورالتو قرب لوكارنو 1940. مزج بول كلي في رحلته الفنية بين روح شرقية رائقة ومنطق غربي دقيق. اكتشف اسلوبًا فنيًا خاصًا يسمح للفنان بالتنقل بحرية بين العديد من الاختيارات، ولكنه احتفظ في تجربته دائمًا بتواضع السطح ورهافة الأِكال وطفولية التكوين. كما ساهم بقوة في تشكيل مسارات التعبيرية والتجريدية الغنائية، كما شارك السورياليين في الكثير من توجهاتهم ولكنه ظل متفردًا ورافضًا لأية لافتة. أمضى حياته متنقلاً بين سويسرا وألمانيا، وجمعته بكاندنسكي وبيكاسو صداقة عميقة، ألف قصصًا وقصائد وترجم دراسات وأصدر صحف فنية، وكتب في النقد وتاريخ الفن. لاحقته السلطة النازية لميوله اليسارية المعلنة، ولكنه ظل يقاوم ولم يستسلم لفكرة الهجرة كالآخرين، حرقت أعماله، ورفعت من المتاحف وأقيل من وظائفه.

في باب حمل عنوان “توزيع العناصر داخل فراغ اللوحة في لغة  الفن الحديث”، يقول كلي: “… أدرك كمصور أنني أمتلك بعض الأدوات البصرية التي تكنني من أن أقود الآخرين، عبر الطريق الذي قطعته بنفسي، ولكنني أشك كثيرًا في قدرتي على وصف هذا الطريق لهم، وتحديد مسارات مقنعة لتحريكهم من خلال الكلمات. أما الشيء الوحيد الذي يبعث على الراحة في هذه المحاولة، فهو وجود الأعمال بجوار الكلمات، وبالتالي فإن الكلمات هنا هي عنصر مكمل لذلك الوجود، ينحصر واجبه في تدقيق وإكمال الأثر، الذي ربما ولدته لوحاتي بشكل غائم”، “سوف أسلك طريقًا بعينه في الحديث، وهو أنني سأتناول تلك المراحل من العملية الإبداعية اللازمة لإنجاز العمل الفني، والتي تتم بدرجة كبيرة في منطقة اللاوعي. أعتقد بشكل شخصي، أنها المنطقة الوحيدة التي يمكن للفنان أن يتحدث عنها بكل المشروعية، أنها تنقل مركز الثقل، عبر استخدام وسائط مغايرة، أي الكلمات، فتخفف من وطأة عنصر الشكل، وهو العنصر المشحون أصلاً وإراديًا بأكثر مما يحتمل”.

 

عنوان الكتاب: نظرية التشكيل

المؤلف: بول كيلي

ترجمة وتقديم: عادل السيوي

الناشر: دار ميريت للنشر والتوزيع – القاهرة

الطبعة: الأولى 2004

الصفحات: 510 قطع كبير