أجراها: فرانك ل. سيوفي
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
ولد إيهاب حسن بمدينة القاهرة في السابع عشر من شهر أكتوبر عام 1925 ودرس بها حتى تخرج من شعبة الكهرباء بكلية الهندسة جامعة القاهرة عام .1946 سافر إلي الولايات المتحدة الأمريكية في نفس العام ليستكمل دراسته الهندسية بها فحصل علي درجة الماجستير من جامعة بنسلفانيا عام .1948 ترك إيهاب حسن دراسة الكهرباء واتجه إلي دراسة الآداب وحصل علي درجة الماجستير عام 1950 من جامعة بنسلفانيا في عام 1953 حصل علي درجة الدكتوراه من نفس الجامعة. عمل منذ عام 1954 وحتي عام 1970 مدرسا ثم أستاذا مساعدا ثم أستاذا بجامعة ويزليان وأثناء تلك الفترة شغل منصب رئيس قسم اللغة الإنجليزية مرتين: الأولي منذ عام 1962 وحتى عام 1964، والثانية منذ عام 1969 وحتى عام .1970
ومنذ عام 1970 وحتي الآن، يعمل إيهاب حسن كباحث متفرغ في الأدب الإنجليزي والأدب المقارن بجامعة ويسكونسين ميلووكي بالولايات المتحدة الأمريكية. وفي أثناء فترة عمله بالأدب عمل كأستاذ زائر في كل من السويد واليابان وألمانيا وفرنسا والنمسا بالإضافة إلي جامعة واشنطتون بالولايات المتحدة. وخلال الأربعين سنة الأخيرة حصل إيهاب حسن علي العديد من الجوائز الأكاديمية وشهادات التقدير والدرجات الفخرية نذكر منها: شهادة الزمالة من معهد جونجهايم، شهادة تقدير من جامعة إبصالة عام 1996 وأخري من جامعة جيسن عام .1999 ويشغل حاليا بالإضافة إلي عمله كباحث متفرغ منصب رئيس اللجنة التنفيذية للجمعية الدولية لأساتذة اللغة الإنجليزية بالجامعات. ولإيهاب حسن أكثر من 15 كتابا و 200 مقال نذكر منها: (دراسات في الراوية الأمريكية المعاصرة) 1961، (التحول إلي ما بعد الحداثة: سلسلة مقالات عن نظرية ومفهوم ما بعد الحداثة) .1987
وفي السنوات الأخيرة اتجه إيهاب حسن إلي الكتابة في السيرة الذاتية وفي أدب الرحلات إلي جانب الكتابة في النقد الأدبي. من بين ما كتب في السيرة الذاتية نذكر (خارج حدود مصر) 1986 والذي يتناول فيه مقتطفات من سيرته الذاتية. وفي أدب الرحلات نذكر (ما بين النسر والشمس) 1996 والذي يتناول فيه اليابان ورحلته إليها من وجهة نظره.
قابلت إيهاب حسن لأول مرة في عام 1981 ، عندما شاركت في سيمينار صيفي كان قد عقده تحت عنوان، “الحداثة، وما بعد الحداثة، ومسألة النص”. وقد اكتشفت من خلاله أن إيهاب حسن ليس كاتبًا وناقدًا فحسب، بل هو أيضًا معلم ماهر ذو كفاءات غير عادية. خلال السنوات اللاحقة داومنا على الاتصال فيما بيننا، ووجدت أنني قد تأثرت كثيرًا بطرق تدريس إيهاب حسن ووقفاته الخاصة بنفس القدر الذي تأثرت فيه بكتابته. المقابلة التالية تم تجميعها واستكمالها من نوفمبر 98، وحتى يناير 1999، عن طريق الهاتف والبريد الإلكتروني والبريد اليدوي.
فرانك: أعمالك الرئيسية التي ارتبطت بفكرة ما بعد الحداثة – تمزيق أورفيوس، النقد الموازي، النار البروميثيوسية الصحيحة، التحول إلى ما بعد الحداثة، والعديد من المقالات – كان لها تأثير كبير على الثقافة ونظرية الأدب. هل لك أن تصف لنا باختصار وأن تعلل هذا التأثير؟
إيهاب: هل كان لها “تأثير كبير”؟ انطباعي أن تأثيرها كان مليئًا إلى حد كبير بالعيوب وأنها تفتقر إلى التناسق. البعض مثل تشارلز جينكز أو ليندا هتشيون أو هانز بيرتنز سوف يشيرون إلى تأثيرها. آخرين – وبخاصة الماركسيين الجدد – سيتبنون موقفًا مخالفًا جدًا تجاهها، موقفًا تطيريًا وتعاويذيًا، كما لو أنهم إزاء عمل سحري مشؤوم يجب دفعه أو تجنبه؛ أو على الأقل هم يتجاهلونه في صمت معلن. بالطبع، هناك استثناءات مثل، برنارد سميث، الذي تنتمي وتمتد جذور مصادره إلى المادية التاريخية، والذي يعكس مقاله الحديث، “الأيام الأخيرة لما بعد الشكل/ الأسلوب”، رزانة رائعة في التقييم ورشادة في الحكم على القضايا. لكن كل هذه الأمور مألوفة تمامًا للكتاب أو معهودة فيهم عبر التاريخ.
فرانك: حسنًا، قمت بصياغة مصطلح “ما بعد الحداثي” عن طريق الإشارة إلى نوع معين من الأدب، وبالطبع، ساعدت في تعريف حركة أدبية – أم أنك لا تريد التسليم بهذا؟
إيهاب: لا، أنا لم أقم بصياغة المصطلح. زعم البعض أن رسامًا بريطانيًا يدعى “جون واتكينز تشابمان” استخدم هذا المصطلح عرضًا في سبعينات القرن التاسع عشر. منذ ذلك الحين، استخدمه الكثيرون مثل، فدريكو دي أونيس، وبرنارد سميث، ودادلي فيتس، وآرنولد توينبي، وتشارلز أولسون، وإيرفنج هووى، وهاري ليفين، بتنوع وتباين شديدين – بمعاني مختلفة ودرجات من التبني – قبل أن أقوم باستخدامه. لكنني أظن أنني التصقت بالمصطلح، وقد حاولت أن أوضح لنفسي أنه يرتبط بحركة طارئة.
فرانك: ما الذي تعتقده بخصوص العلاقة بين الرومانسية والحداثة وما بعد الحداثة؟ في محاضرة عامة في جامعة برنستون، سألت مؤخرًا روبرت ستور، من متحف الفن الحديث، أن يعرف لي”ما بعد الحداثة”، وقال إنه كان مرتبكًا ومشوشًا بشكل دائم فيما يتعلق بمعنى المصطلح. هل تعتقد أن ثمة أناسًا كثيرين مضطربين ومشوشين بنفس الطريقة؟
إيهاب: آه، في الواقع، هذا الموضوع متعلق بشيء ما، كنت أعددت عنه محاضرة سوف أقوم بإلقائها في بعض الجامعات بألمانيا والنمسا هذا الربيع. أطلقت على المحاضرة اسم “الرومانسية، الحداثة، وما بعد الحداثة: ثلاثة مذاهب تبحث عن مفهوم”. دعنا نبدأ بالرومانسية: التي أصبحت عرضة للنزاع بالضبط مثل ما بعد الحداثة. ربما الحداثة أقل منهما عرضة للنزاع بشأنها لأن القاسم الأعظم من الكتابات التي تناولت الحداثة منحها ثقلاً معينًا، وزنًا بعينه واستقرارًا – لدينا مثلاً مجلدان حديثان جليلان، الأول لبرنارد سميث “بعنوان تاريخ الحداثة” (عن الفن التشكيلي)، والآخر لبيتر كونراد “العصور الحديثة” (عن الثقافة)، يسبقهما زمنيًا “الحداثة المبكرة” بقلم كريستوفر بتلر و”الحداثيون الأوائل” لوليام ر. إيفيرديل، وهذه الكتب هي بالضبط صفوة الصفوة فيما يتعلق بتناولها لموضوع الحداثة. الآن، كما تعرف، عن طريق بعض النقاد مثل هارولد بلوم، لم تنته الرومانسية أبدًا – نحن جميعًا بالضبط رومانسيون متأخرون، مثله تمامًا. ما هو واضح بالنسبة لي، على أية حال، هو أننا أسقطنا السخريات، والتهكمات، والخلافات، والقلق، وانعدام الآمان، وعدم الوضوح، وكل ما هو غير محدد مما في ما بعد الحداثة فوق رأس الرومانسية؛ نحن أعدنا اختراع الرومانسية. وفقًا لتصورنا أو تخيلنا الخاص (الذي، وبالصدفة، هو الجانب الآخر من”قلق التأثير” – أقصد الاستيعاب أو التمثل). موضوعات معينة أو مشاكل أو مظاهر، أيًا كانت، تتدفق من الرومانسية، عبر الحداثة، إلى ما بعد الحداثة، تتغير وتتحول على مدى الفترات كلها. على سبيل المثال، يصبح الخيال الرومانسي وعيًا حداثيًا، يصبح لغة ما بعد حداثية – من الخيال إلى اللغة، كتعبيرات مجازية رئيسية مسيطرة. وتصبح النفس الرومانسية الأنا الحداثية التي تصبح بدورها الذات الفارغة لما بعد الحداثة، إنها نفس الكلام. لكن هذه كلها بصفة عامة تصورات فرنسية: حاول أن تخبر هذه النفس أو الأنا أو الذات أو طفلك، فيما يتعلق بهذا الأمر، أن حاجاتنا الضرورية التي لا سبيل إلى تجاهلها هي عبارة عن شكل من الغياب، من الانتشار والتبعثر، أو الإرجاء.
فرانك: لكن هل أنت أيضًا مشوش ومرتبك بسبب ما بعد الحداثة، كما يقول لي “روبرت ستور” عن نفسه؟
إيهاب: حسنًا، نعم ولا. إنني أقبل فكرة عدم ثبات واستقرار المصطلح في عصر الحملات الدعائية الإعلانية وسائل الإعلام. أقبل قابليته للتغير، والتحول، وتضارب سماته في داخله، في زمن حروب إيديولوجية. وبشكل متزايد، تجاهلته لأن اهتماماتي الخاصة سارت في اتجاه آخر بعيدًا عنه ونحو إمكانيات روحانية منصبة على كل قضايا التحول ما بعد الحداثي. هذا يعني، أنني مازلت أذكر نفسي بأنه عندما يتحدث تشارلز جينكز عن الطراز المعماري لما بعد الحداثة أو فريدريك جيمسون عن “المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة”، فإن شيئًا ما حقيقي، ليس بالضبط، وإنما فوق حقيقي، تتم مناقشته. ذات مرة، قمت بصياغة مصطلح اللاتعين في النسق الخلقي أو روح الشعب أو القوة الدافعة في الطابع القومي لجماعة أو أسلوب ما بعد الحداثة، وكان هذا وصفًا غير كاف لأنه، في السياق الجيوبولوتيكي، فإن ما بعد الحداثة لا يستلزم فقط هذا اللاتعين في الثقافة الغربية بل أيضًا علاقات ما جديدة بين المراكز والهوامش، وبين الهامش والهامش، والمركز والمركز، اللامكان واللامكان (مدن فاضلة) من جميع الأنواع. هذا هو السياق أو تركيب البُنية المفزع الذي طرأ للمحلية/ العولمة.
فرانك: لكن ماذا عن الحداثة نفسها ضمن كل هذا؟
إيهاب: حسنًا، حاولت، مرة أخرى، تمييز ما بعد الحداثة عن طريق مقارنتها بالحداثة، نظرًا لأن العقل البشري متباين بشكل حتمي اضطراري. كان هذا في مقال لي سميته “نحو مفهوم لما بعد الحداثة”، تمت إعادة طبعه كنبذة ختامية للطبعة الثانية من كتاب “تمزيق أورفيوس” 1982. هذا المقال أعيد طبعه كثيرًا خاصة صفحات قليلة فيه حاوية جدول مُقسّم إلى عمودين ويستعرض بعض التناقضات بين الحداثة وما بعد الحداثة. الآن، هذا الجدول قد حاز شعبية شديدة، حتى مع هؤلاء الذين منّوا أنفسهم انتقاده. بعد أن أو رغم أنهم تجاهلوا جميعًا إنذاري أو تحذيري الواضح: بأن “الثنائية التي وضحها هذا الجدول ستبقى مزعزعة وغير يقينية، وملتبسة، وبالنسبة للاختلافات فهي عرضة للتبدل والتراجع بل والانهيار بشكل كامل، بمعنى أن المفاهيم الموجودة في أحد العمودين الرأسيين ليست مكافئة في القيمة أو المعنى لمقابلاتها في العمود الآخر، وكذلك لابد وأن تطغى الاستثناءات والتحولات العكسية، في كل من الحداثة وما بعد الحداثة”. تجاهلوا أيضًا التصريحات السابقة، التي ترجع إلى 1971، بأن الحداثة لم تنقطع ولم ولن تتوقف فجأة من أجل أن تبدأ مرحلة ما بعد الحداثة: إنهما الآن متعايشتان معًا في الواقع، كنت أقول إن ما بعد الحداثة متواجدة في داخل أعماق جسد الحداثة.
اتخذ ناقد إنجليزي موقفًا مرحًا في ظاهره من الجدول. لكن ليندا هيتشيون، بأمانة شديدة، تمسكت بموقف صحيح فعال في كتابها “شاعرية ما بعد الحداثة”: أعني، أن ما بعد الحداثة تتضمن سمات من كلا العمودين، حيث أن منطق مرحلة ما بعد الحداثة هو التعارض لكن مع التعايش، أي الدرجة الأقل في المقابلة على طريقة “إما/ أو”، والدرجة الأكبر على طريقة “هذه/ تلك” معقول. لكنه هو المنطق الخاص بالحداثة، والرومانسية، وغيرها الكثير أيضًا.
موقفي هنا منصب على لندا هيتشيون بدرجة أقل بكثير من ميراث ما بعد البنيوية الغبي: حيث، وبطريقة ما، “هذه/ تلك ” أكثر عمقًا أو دقة أو مناسبة من إما/ أو. إذا قلنا “هذه/ تلك” – وبإمكاننا قول هذا على أي شيء – فإنه يتعين علينا أن نظهر بأي طريقة بالضبط تكون الفروق وتستعمل التناقضات أو الاختلافات بينهما وبأية طرق يتم تذويب الفروق أو حذفها أو التغلب عليها. إن قول “هذه/ تلك” على كل شيء لهو أمر عقيم في ضوء الشرط المذكور.
فرانك: بالطبع، اتخذت “ما بعد الحداثة” معنى جديدًا أو إضافيًا. قرأت حديثًا ما أتصور أنه وصف وجيز لـ”نسبية ما بعد الحداثة”، فيما كتبه جيم هولت في ملحق عروض الكتب في جريدة التايمز، وقد طرح هذا التعريف لها: “المفهوم القائل أن الواقع المادي لا يعدو أن يكون تركيبًا اجتماعيًا وأن العلم، بالرغم من ادعاءاته أنه يمتلك الحقيقة، هو مجرد “قصة” أخرى لتشفير الإيديولوجية الثقافية السائدة التي أنتجته”، وهو ما يبدو أننا نسمعه (أو نسمع طبعات وإصدارات له) باستمرار، وقد تم اعتناقه ومناصرته من قبل أناس جادين نسبيًا، بدرجة كافية لأن يختصه البابا بتعنيف رسمي. كيف يتسنى لأي شخص عاقل فعلاً الإيمان بـ”نسبية ما بعد الحداثة” هذه؟ ما الذي تعتقد أنه يكمن خلف هذا؟
إيهاب: الأشخاص العقلاء، وأيضًا الأشخاص الأقل تعقلاً وحصافة، لديهم رغبات، “إرادة الاعتقاد” كما سماها وليم جيمس، ولا تقل قوة عن “إرادة السلطة”. في الحقيقة، إنهما متشابهتان، إن لم تكونا نفس الشيء. عن المعاناة، والحرمان، والحاجة العاجلة والملحة، والاستياء العميق، تتولد الإرادة لتعيد الحال إلى ما كان عليه من الاستقرار إلى نصابه. والآن إذا ماتت الحقيقة، فإن كل شيء يصبح ممكنًا من الناحية النظرية. وإذا كان كل شيء اعتباطيًا، وعارضًا، ونسبيًا، ولا شيء ملزمًا لشيء: فإن الحقيقة تكون هي ما أختاره لأقوم به. هذا بالضبط هو”التحرر” – إلى أن أستيقظ يوما ما مصابًا بسرطان أو أرقد في فراش الموت أو أفقد زوجتي أو أكتشف أنني لن أجري أبدًا بسرعة أو أقفز عاليًا… باختصار حتى أتوقف عن أن أكون طفلاً، طفلاً أمريكيًا.
قل للناجين من هيروشيما ونجازاكي أن العلم مجرد “حكاية” أخرى، أن رجلاً (آينشتاين، كما هو مفترض) كتب على السبورة: الطاقة= الكتلة × مربع سرعة الضوء، وأن مدينتين أبيدتا حرقًا على الفور، قصة!
نعم، النسبية تتيح الوهم الخاص بكل من البراءة والحرية. وهل لاحظت أن النسبية عادة ما يتم اختراقها أو اتخاذها كذريعة من قبل شخص ما على وشك أن يخسر جدالاً أو مناقشة؟
فرانك: ما الذي تعتقده، رغم، أن”النسبية” أصبحت مرتبطة بـ”ما بعد الحداثة”؟ هل تعتقد أن هناك ربط أو اتصال منطقي بين نوع الفن الذي قمت بتعريفه على أنه “ما بعد حداثي” وموقف النسبية الأصيل؟
إيهاب: المسرحية، والمحاكاة الساخرة حيث الجد في الهزل (البارودي)، والباستيش[1]، والتعددية- المواد الخام لأسلوب ما بعد الحداثة أو الموقف العقلي ما بعد الحداثي – تميل إلى النسبية، كما يفعل الانفتاح أو اللاتحدد. والفلاسفة غير المؤسسين أو البراجماتيين يميلون أيضًا إلى النسبية. والمجتمعات غير المستقرة الغاصة بالأصناف الهجينة وغير المتجانسة تميل إلى حد كبير إلى النسبية. كل هذه الأنواع الثلاثة جزء من “الوضع الما بعد حداثي”. لكن من فضلك لاحظ أنني قلت “تميل إلى”: أنا أشك أن “النسبية الأصلية يمكن أن يتم الإبقاء عليها عمليًا دون انتهاك”.
فرانك: كيف يمكن أن تصف النقد الأدبي والنظرية الأدبية في الخمسين سنة الأخيرة أو نحو ذلك؟
إيهاب: حسنًا، هذا موضوع لكتاب، لمكتبة من الكتب دون شك، تتم كتابتها ثم حرقها. دعني، على أية حال، أقرأ لك، مقطعًا هجائيًا لطيفًا، لكنني أظن أنه وثيق الصلة بالموضوع، من مقال نشرته حديثًا تحت عنوان “استفسارات عن الدراسات ما بعد الكولونيالية”، موضوع عادة ما أنأى بنفسي عنه: ثمة قصة في عمق لاوعي العلوم الأكاديمية الإنسانية، وتمضي أحداثها على هذا المنوال: “ذات مرة، منذ وقت طويل في عصر مظلم، كانت هناك قبيلة من الكتاب في الجنوب الأمريكي، أطُلق عليهم عن طريق خطأ فظيع بشع اسم (النقاد الجدد). قاموا بتركيز اهتماماتهم أكثر مما ينبغي على أشكال الأعمال الأدبية، وعلى الأدوات والحيل الأدبية بصفة خاصة مثل السخرية والمفارقة. لفترة زمنية أكثر من اللازم، هيمنوا وسيطروا على دنيا النص والقراءة. لكن عندما حلت أخيرًا سنوات الستينات انكشفوا، شكرًا لله، أزيح النقاب عن المحدودية الأدبية للنقاد الجدد، وعن محافظتهم السياسية. كانت الساحة خالية والجو مهيئًا، وبدأ النقاد الشبان المغامرون في التحول إلى القارة الأوربية. بحثًا عن الإلهام: إلى الوجودية وعلم الظاهرات (الفينومينولوجي)، إلى فلسفة الوعي ونظرية الاستقبال، إلى الفلسفة النقدية، إلى البنيوية. أشار هؤلاء النقاد إلى الاتجاه الصحيح، لكن كان عليهم انتظار مجيء ما بعد البنيوية لاكتشاف الاحتمالات الكاملة لفنهم غير التفكيكي (التحليلي). سرعان ما أصبح اتجاه المدرسة التفكيكية، للأسف، مملاً، فارغًا، غير مترابط. غير أن دراسات مناصرة المرأة (الفيمينست)، والعرقية، وما بعد الكولونيالية، والدراسات الثقافية جاءت لإنقاذ وتحرير اتجاه التحليل التفكيكي من عقمه الداخلي والفطري، وإثراء “أجندتهم أو جدول أعمالهم”- نعم، هذه هي الكلمة المناسبة – على المستوى الاجتماعي السياسي بضخ كل أنواع مضادات الإرباك، والحيرة، والغموض، والخرافات والأساطير بدقة وضبط. ربما سيكون من دواعي الآمان القول أنه مع السيطرة والانتشار الحالي للدراسات الثقافية، في أشكالها المتنوعة، وصل النقد إلى قمته. يبقى لنا فقط الاحتفاظ بمواقعنا ورفض التراجع أمام فريق من الإنسانيين والرجعيين، وأنصار الثورة المضادة، والفاشيين الأوائل الأصليين الذين لازالوا يتغلغلون في ممرات الجامعات والبيئة الأكاديمية”.
المحاكاة الساخرة، أنت تضحك، وتصيح: كاريكاتير! لدى الكاريكاتير في العادة سلوك مربك ومقلق للمجيء إلى الحياة في الجامعة، خاصة في البيئة الأكاديمية الأمريكية. لكن لنصرف النظر عن هذا: النقطة الرئيسية هي أن خرافة أو أكذوبة تهنئة النفس بالتقدم تشكل النقد وتنشطه وتكون مناطه في عصر الحروب الثقافية. التقدم؟ الثقافة هي رق أو لوح مجعد، وسهم التاريخ يتحرك مثل طائر سنونو، هذا إذا لم يرتد منقلبًا في الاتجاه المعاكس. مثلما دلل وبرهن توماس كون، العلوم الوضعية والإنسانيات تتطوران بمنطقين مختلفين. لم يعد هناك بطليموسيين أو نسترداموسيين في أقسام العلم الطبيعي المحترمة؛ لكن هناك، أفلاطونيين، أرسطويين، توماسيين، كانطيين، هيجليين، ماركسيين، نيتشويين، فرويديين، هايدجريين، لاكانيين، فوكويين في الأقسام المحترمة للعلوم الإنسانية. هذا لا يعني القول بأن نماذج أو أمثلة العلم “أفضل” ؛ فقط يعني أن نماذج العلم تستجيب إلى معايير مختلفة من التأكيد وعدم التأكيد. نماذج العلوم الإنسانية – سيقول توماس كون “مدارس” بدلاً من نماذج – تستجيب للشكل أو للنمط السائد، وكذلك إلى الحاجات الحقيقية والأصلية للتغير الاجتماعي، وهذا الأخير جدير بالإعجاب، رغم أنه لا يعلن عن أي تقدم معرفي (أبستمولوجي). الآراء الخاصة بمجموعة بعينها من النقاد المؤثرين لا تحظى بتصديق وإجازة من جانب منطق صاعد متصلب في أفكارنا عن الحقيقة الإنسانية.
فرانك: يبدو لي النقد الأدبي الحديث، وقد أصبح صعبًا بشكل متزايد بالنسبة للأشخاص العاديين غير المتخصصين، أو حتى المتخصصين، من ناحية الفهم. المفردات، اللغة الاصطلاحية، النحو، وحتى المنظومة كلها تبدو عنيفة وقاسية، تم تصميمها في الغالب لتنفير الفهم، ولاستبعاد السواد الأعظم من جمهورها المحتمل. يزعم العديد من النقاد أن الأفكار المعقدة والصعبة تتطلب نثرًا صعبًا ومعقدًا. كتابتك حتى الآن تبدو مغايرة، إنها معقدة لكن رغم ذلك واضحة وصافية، يسهل استيعابها، عملية، مستندة إلى الواقع، تبدو موجهة إلى القارئ المتعلم أو المثقف الذي ترغب في إقامة علاقة حقيقية معه فعلاً. ما هي آراؤك في الكتابة الأكاديمية بصفة عامة، كتلك التي تظهر على صفحات الجرائد، على سبيل المثال، وفي أماكن أخرى؟ هل تشعر أن “المقال” ربما هو الأكثر ملائمة من القطعة الأكاديمية لنقل الأفكار؟ ومن هم النقاد الذين يكتبون اليوم (خلال الربع قرن الأخير أو نحو ذلك)؟
إيهاب: كما تعرف، أنا ضد المصطلح المغلق على جماعة بذاتها، المصطلح الذي يتنكر في ثياب أفكار معقدة. أنا تمامًا ضد الإطناب أو النثر المكتوب بشكل سيئ. هذا ببساطة ليس حكمًا جماليًا وحسب، إنه حكم أخلاقي واجتماعي أيضًا. في الحقيقة هو حكم روحاني لأن النثر – باستثناءات بعينها كنثر كيركيجار، إذا اعتبرناه نثرًا – المكتوب بشكل جيد، يكون بالنسبة لي، هو الذي يجمع بين البهجة، والنكران الزهدي للذات، والوضوح الروحاني.
بالفعل تحدث الكثيرون عن “القارئ العادي”، و”النثر العام”، والغموض والإبهام الأكاديمي غير الوطني. فقط دعني أقول إنني أعتبر أساليب نثر بعينها في الأكاديمية الأمريكية عبارة عن شوارع سد أو نهايات مهلكة. هذا ليس فهمًا انعزاليًا، أنا أتأثر بالعمل النثري الجيد المثير الذي أجده، على سبيل المثال، في “بروفشنال لجمعية اللغة الحديثة 1998″، أيضًا في المطبوعات الدورية المتنوعة مثل “الفلسفة والأدب”، و”متنوعات”، و”مجلة جورجيا النقدية”. وأنا أشجع مسابقة الكتابة السيئة، التي يرعاها كل من دينيس ديتون وباتريك هنري، محررا مجلة الفلسفة والأدب، التي تمنح جوائز سنوية لأكثر الكتابات النثرية شناعة وإثارة للضحك والسخرية. إلاّ أنني لا أبتهج وأهلل عندما يخبرني بعض طلبة الدراسات العليا أن النثر السيئ في الواقع ذلك المقبول سياسيًا.
أستمتع أيما استمتاع بالنثر النقدي لشعراء مختلفين تمامًا مثل شيموس هيني، وآني ديلارد، وحتى في الترجمة أستمتع بنثر زبيجنيو هيربرت، أوكتافيو باث، إيتالو كالفينو، وآخرين كثيرين. من بين النقاد الأحياء، أحب، على اختلاف مشاربهم، نثر دينيس دو نوجه، سوزان سونتاج، فرانك كيرمود، روجر شاتوك، روبرت هيوز، هيلين فيندلر، ويليام جاس، جورج شتاينر في بداياته – أنا تعددي، وانتقائي كما ترى. لكن قد يكون هذا لأنني أحب الشخصية المفكرة أكثر من الأيديولوجية عند أولئك النقاد. بالنسبة لهارولد بلوم، وهو مبدع متميز في حقيقة الأمر، إنني أكن له احترامًا كبيرًا وأقدر تقييماته، لكني أفتتن بنثره في بعض الأحيان لأثر نرجسي أو لاختزال فيه أو انتقال يفهم ضمنيًا. لكن هذا ينطبق فقط على أعمال معينة، وفي صفحات بعينها، مما يدعو إلى الأسف كثيرًا.
فرانك: إذن ما الذي ينبغي على النقد الأدبي أن يفعله؟ في رأيك، لماذا نرى العلوم الإنسانية على هذا القدر من الفوضى والتشوش؟ هل بوسعنا عمل شيء لإنقاذها؟
إيهاب: أتفق مع ت.س. إليوت في أن المؤهل الوحيد للناقد هو أن يكون ذكيًا جدًا. حسنًا، أنا متفق مع هذا بشكل جزئي، لأن النقاد العظام، من أرسطو مرورًا بدكتور جونسون، حتى إليوت نفسه وإلى وقتنا هذا، كانوا أكثر ذكاء بكثير: كانوا أيضًا حكماء. ربما هذا هو ما كان يعنيه إليوت، وربما لا. الحكمة، من وجهة هي العمدة، لا الذكاء، ولا الأيديولوجيا.
لماذا ترتع العلوم الإنسانية في حالة من الفوضى أو التشوش؟ هل هي حقًا كذلك؟ أنها ببساطة متصارعة وتعاني من إساءة الاستخدام؟ ولماذا ينبغي علينا إنقاذها، وكيف، ولصالح من؟ إنها كمصيدة فئران إمرسون، سيشق العالم طريقًا إلى عتبتك إذا امتلكت شيئًا ما يحتاج إليه حقًا. ما الذي تقدمه العلوم الإنسانية هذه الأيام، إلى جانب الرياء ولغة الإثم والعبادات، إلى مواطنينا – بدءًا بهم – وبحيث يكونون في حاجة إليه فعلاً؟ حسنًا، كما قلت، تكافح العلوم الإنسانية هذه الآن من أجل التغيير الاجتماعي، من أجل توضيحه وتفسيره. لكن هذا ليس كافيًا تمامًا، هناك مطلوبات أخرى، ربما أكثر عمقًا، إنها الحاجات التي لا تشبعها هذه العلوم. لا يوجد لديّ تليفزيون، إلاّ أنني لا أستطيع العيش دون نوع بعينه من الكتب. إذن، هل أكون غير طبيعي أو شخص فلتة؟ هذه فكرة ترضي غرور المرء وكبرياءه. لكن لا، إنها حقيقة ملحة ومشتركة بيني وبين الآخرين، وإذا أمكن لنا أن نشهد لها بما تنطوي عليه من الفطنة، والمشاعر، والصدق، والكرم، إذا استطعنا ذلك بارتياح واغتباط وليس بامتعاض واستياء، باغتباط مع الترحيب بالنقد، فقد تسود حينها قوة التعاطف والمشاركة الوجدانية. هذا، في تصوري، “ختام القول”، لأداء الشهادة هذه، في أكمل درجة من، الشهادة بعمليات التصوير والتمثيل البارزة الرائعة، دعنا نقول الشهادة على أكمل درجة من الإنجازات البشرية وحسب.
فرانك: هل اعتبرك تهربت من هذا السؤال، أم أنني مخطئ بعض الشيء؟ كيف لنا أن نكون “حكماء” أو حتى “أذكياء جدًا”؟ هل نحن نحاول القيام بشروح وتوضيح النصوص الأدبية؟ هل نقوم بالكشف عن الآليات الاجتماعية؟ هل نحن –
إيهاب: كلمة “نحن” ليست ضميرًا مفردًا: هناك نوعيات إنسانية كثيرة، البعض ذكي والآخر أقل ذكاء، البعض حكيم والباقي حمقى. هناك أيضًا العديد من المهام الفعالة التي تقوم بها أكاديمية العلوم الإنسانية، من تدريس قطع التعبير إلى العمادة ورئاسة الأقسام، من شرح وتوضيح الأعمال إلى الارتقاء بالأفكار، من كتابة التراجم والسير، وتحرير النصوص، وصياغة النظريات، والأبحاث الثقافية، إلى… كل ما ترغبه. ما قمت بتفاديه أو التهرب منه منذ لحظة كان نموذجًا – بلا شك، من بين نماذج عديدة – للناقد أو العالم أو الأستاذ أو الباحث الإنساني أو ببساطة الكاتب الذي يكشف عن شيء ما مركزي جدًا، وشيق جدًا، لكنه أيضًا خفي وغامض، في الوضع البشري. شيء ما بدونه لا يستطيع الكثير من القراء العيش. إن هذا الشيء غير محدد حتى الآن لكثير منا، وهو الذي يبعث الطاقة في العلوم الإنسانية.
فرانك: هل هناك منطقة تريد أن تنقح فيها ما كنت قد كتبته وأصدرته بالفعل؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هو؟ كنت قد كتبت من قبل أن كتابك الأول، “البراءة الجذرية”، كان الأكثر قبولاً بين كتبك. هل كنت تتمنى أن تتمتع كتبك بمزيد من “القبول”؟ أم أنك تفضل الوضع الذي يبدو أنك قد اتخذته؟ وما الذي تعتبره أعظم إنجاز أكاديمي لك، ولماذا؟
إيهاب: إنها أسئلة غاية في الصعوبة، صعبة لأنها تلجأ إلى الغرور المُقنّع، كأسف أو ندم، وفي أحسن الأحوال المقنع كنقد ذاتي، الوهم الذي نعرفه بشكل أفضل عندما نكبر في السن. الشيء الغريب والطريف أنني أؤمن فعلاً بأننا نعرف بعض الأمور بصورة أفضل، نعرف “أننا نذبل في أحضان الحقيقة”، وبعبارة ييتس المخيفة “نفرغ أنفسنا من اهتمامنا بذواتنا”.
فرانك: أو ربما ما هو أكثر كما يقترحه كافكا في “مستوطنة العقاب”، كما تعرف، قبل أن نموت مباشرة نفهم أخيرًا طبيعة أخطائنا؟
إيهاب: أنا لست على يقين تام من تأويلي وتفسيري لكافكا بشكل كامل. فمسألة أننا نفهم طبيعة أخطائنا ربما تكون وهمًا. يخيل إليَّ، وأتصور أن لكافكا نفس اعتقادي في أن بيتنا الحقيقي عبارة عن سحابة من الجهل، وعدم الفهم. لكن لنرى كيف سأتمكن من الإجابة على بقية أسئلتك. أعتقد أنني قمت بوضع هوامش لنفسي جغرافيًا ومهنيًا – أما تقويميًّا أو كبنية، أنا شخص منطو متوحد. موقفي المستقل (دعنا نسميه هكذا) كان للعجب، أكثر مقبولية في أوروبا عنه في أمريكا. لماذا العجب؟ لأن أمريكا، تلك “الرغبة القلبية” القديمة، كما قال عنها سكوت فيتزجيرالد، كانت الأكثر إكرامًا لي، الأكثر ترحيبًا في المجالات الأخرى كلها. أشعر بهذا بقوة كفرد، وكمهاجر: أنا لا أعتبر نفسي نصف أميركي.
لكن مهنيًا، منذ “البراءة الجذرية”، صار الأمر أكثر حذرًا. أولاً، كان هناك دفاعي عن ما بعد الحداثة، عندما كانت لا تزال في بدايتها، وغير معروفة في ذاك الوقت. ثم تلى ذلك قيامي بالنقد الموازي أو شبه النقد، بإيقاعه الاضطراب في النثر النقدي. ثم مقاومتي لـ”جي آر آي إم” أي (القعقعة الهائلة للماكينة الأيديولوجية)، كما أطلق أنا عليها، تلك القوة العنيدة التي تصل إلى حد التضحية بالنفس للالتزامات الفكرية، وقد كان لي هناك منذ البداية ما أدركه بعض الناس كمسحة أو نزعة قاصرة أو خرقاء من الصوفية، مع ذلك أنا لست الآن، ولم أكن أبدًا صوفيًا – فقط، مثل السواد الأعظم منا، هائم في الكون، وأيضًا غنوصي متسائل. بالطبع، كنت أيضًا في بعض الأحيان طائشًا فكريًا، ضيق الصدر، مستثارًا، واستفزازيًا في عصر صعب المراس، وكما تعرف، يمكن أن تنشق عن الاستفزازات الأرض التي تندلع بكافة أسلحتها كأسنان التنين. إلا أنني لست مخلوقًا ذا قابلية للأسف والندم والحسرة: أقبل الأمر على ما هو عليه من أحوال. “أعظم إنجازاتي العلمية؟” قد يقول البعض أنه النقد الخاص بالأدب الأمريكي في فترة ما بعد الحرب، والبعض قد يقول العمل المبكر في ما بعد الحداثة، مازال هناك من يحبون إنتاجي في أدب الرحلات، وآخرون، يفضلون العمل المتعلق بالسيرة الذاتية، مثل “خارج حدود مصر” أو “بين النسر والشمس”. أنل لن أجيب عن السؤال المتعلق “بإنجازي” بنفسي، خشية أن تصيبك الإجابة بتمزق، فإنها عدمية نوعًا ما.
بالمناسبة، هناك نوع إيجابي شبه مقدس أو شبه ألوهي من العدمية التي شغلتني بشكل متزايد – ربما يمكنني التحدث عنها فيما بعد.
فرانك: العديد من أساتذة اليوم كانوا راديكاليين في فترة الستينات (ضمن الموجة التي سادت)، وقد احتضنوا الماركسية أو النظرية الماركسية الجديدة. أنت، وقد قاومت حتى الآن هذا الاتجاه السياسي بشكل كلي، ما الذي تعتقد أنه عامل الجذب في النظرية الماركسية؛ باستثناء أنها تساعد في إتاحة أو توفير “علم البلاغة الإجباري للنزاهة أو الاستقامة المعبأة في رزم مربوطة” (باستخدام عبارتك)؟ هل هو أيديولوجي جدًا ما تسميه الـ(جي آر آي إم )؟ هل تعتقد أن موقف اليسار يساعد الأكاديميين في الإحساس بأنهم مازالوا “فاعلين”؟
إيهاب: أولاً، دعنا نفرق بين الماركسية واليسار (إشعيا برلين، من بين آخرين كثيرين، كتب بطريقة مقنعة عن هذا). بعد ذلك، دعنا نتعرف على الشخصية الماركسية الغربية المتغيرة على مدار الثمانين عامًا الأخيرة. ثم، دعنا نعترف بأن النظرية الماركسية – وهي ليست سوى نظرية ولم تكن أكثر من ذلك – نجحت في أن تكون مؤشر مقاومة متغير، علامة للغير، علامة بلا قيود، وراية ترفرف بالسخط والاستياء – مثل الإسلام الآن في أماكن معينة من العالم، بدون معتقلات سوفيتية. وفي الواقع، قال لي مفكر مغربي ذات مرة في الدار البيضاء: “لقد تحولت إلى الإسلام لأن الآخر (يقصد الماركسية) قد فشل”.
عن نفسي، أجد الماركسية، في عمق تكوينها الداخلي وأفكارها، كريهة ومثيرة للاشمئزاز – بناء على أسس أو في مستويات أخلاقية وجمالية وسياسية وسيكولوجية وبراجماتية بسيطة. دائمًا ما وجدتها ممقوتة – ربما هذا الرأي الفردي من جانبي فقط – بالضبط مثلما وجدت عليه كل أشكال الفاشية، والديكتاتورية، والشمولية، والأصولية البغيضة. كذلك، وبشكل متزايد، أمكن لي بلوغ مرحلة الارتياب في الأفكار المجردة، وبخاصة الأفكار المجردة الدموية (طبقًا لتحريف في مقولة والاس ستيفنز)؛ أي الأفكار المجردة التي تتطلب دماء بشرية للدفاع عنها وإبقائها حتى آخر مشوارها. كلا كلا! أرى اليسار المرن، من ناحية ثانية، مدركًا تمامًا لحاجات البشر الأخلاقية، والجمالية والروحية، وبالطبع يمكنه بعث الحيوية ليس فقط أكاديميًا بل واجتماعيًا أيضًا. لكن بأي معنى أو مفهوم سيكون “يسارًا”؟ بمعنى تقدمي؟ إذا كان كذلك، فسوف يتطلب هذا تعديلاً مستمرًا ومتواصلاً في التوجه، نظرًا لأنه ليست هناك جماعة تحتكر التقدم لنفسها، فالتاريخ قد أفصح بوضوح عن استحالة خضوعه لاحتكار حزب وحيد.
فرانك: ما الذي ستنصح به طالبًا ينتوي الشروع في دراسة العلوم الإنسانية؟ هل تشعر أن نظام الجامعة يتيح العديد من الفرص والتأهيل للناس الذين يطلبون العمل في هذا النظام عبر حياتهم بعد التخرج؟
إيهاب: أطلب من المرشحين المرتقبين لنيل درجة الدكتوراه أن يختبروا حدود التزامهم تجاه المهنة الأكاديمية. فيما وراء ذلك، ليس بوسعي تقديم المزيد. إذا دخلوا المهنة فعلاً بالتزامات قوية راسخة، فسيعملون المزيد لتشكيلها ولتطويرها أكثر مما فعلت أنا. ما يقلقني، رغم ذلك، هو هذا الميل – وبصفة خاصة في أمريكا، من تشارلي ويلسون إلى بيل جيتس – نحو معاملة كل المؤسسات الاجتماعية وكأنها نظائر مختلفة قليلاً عن بعضها ومتحدة جميعًا في أصل نموذج أو قالب المعاملات التجارية. مستشفى، كنيسة، جيش، عائلة، معمل بحث، وبالطبع، الجامعة – كل هذه ليست بتلك البساطة مجرد أعمال تجارية ربحية، رغم أن الجميع قد يستجيبون إلى عنصر “اليد الخفية”.
فرانك: هل تشعر أن التدريس ضرورة ملحة أخلاقيًا؟ كنت قد كتبت أن التدريس قد ساهم في ولادة أعمالك وبعث الحياة والنشاط فيها.
إيهاب: التدريس، كان دائمًا، أخلاقيًا بصورة لا يمكن تجنبها، كل الطرق تعود بنا إلى أرسطو. لكن التدريس أيضًا جمالي، وإيروتيكي، وروحي… كنشاط بشري مركزي، يتطلب كامل طاقتنا، طلبة ومدرسون على حد سواء، ليصبح رسالة إنسانية حقًا. التدريس “الناقص”، بما تحمله كلمة ناقص من معنيين، يؤدي إلى تراجع وتقلص اهتمام الجميع. لكن التدريس الجديد يجب أن يكون مخالفًا بعض الشيء.
فرانك: “مخالفًا” بأي معنى؟
إيهاب: أقصد بمعنى أن يكون غير متوقع، غير متعمد، غير مؤسسي. لكي يكون مفاجئًا للطلبة والمدرسين أنفسهم. “ليضفي مسحة من الدادية” كما زعمت أنا عنه ذات مرة.
فرانك: هل تعتقد أنه ينبغي علينا تدريس أنواع من “الكتب العظيمة” كمواد للدراسة؟ هل تشعر أن الاعتراضات المناصرة للمرأة ضد النظام المقرر هي اعتراضات صحيحة؟
إيهاب: نعم، بالطبع، ينبغي علينا العمل على تدريس الكتب العظيمة. نعم، اعتراضات الكثيرين من مناصري المرأة على التراث المقرر كانت صحيحة في بعض الأحيان. لا، التراث المقرر، لا يجب إلغاء التراث المقرر المستجيب لحاجاتنا – وقد أوضحه فرانك كيرمود كمستجيب دائمًا إلى أبعد حد – لا يمكن القضاء عليه، لأن من يقومون بالإلغاء غالبًا ما يتوسلون كثيرًا لكي يقوموا بإعداد نظامهم ومقررهم، سواء إن كانوا يسمونه كذلك أم لا.
فرانك: هل تشعر أننا متخلفون أو “موضة قديمة” لأننا نقوم بتدريس بعض كتب غير مقروءة نسبيًا؟ أم أنك تحس أن رسوخها وثباتها على مدار الزمن يمثل بعض الإشارات المهمة؟ أنت في الغالب لا تقوم بتدريس “الثقافة العامة الشعبية” – أو الكتابة عنها كثيرًا، معظم عملك منصب على ما يطلق عليه “الثقافة الراقية”. هل تحظى “الثقافة الراقية” بتفضيل خاص لديك؟ هل بمقدورنا رسم خط فاصل بين الفن الراقي والفن الشعبي، مثلما فعل مؤخرًا نورمان ميلر وجون أبدايك في مقالتيهما النقديتين لعمل “توم ولف” (إنسان بمعنى الكلمة)؟
إيهاب: عندي ميل أو تفضيل خاص تجاه ما يؤثِّر فيّ ويحركني، تجاه ما يدهشني، ما يوجهني، أو يعلمني ويقض مضجعي ويقلقني، نحو ما يوسع آفاق الوعي وجدانيًا وتعاطفيًا مثلاً. لكنك على صواب: أنا لم أقم بالتدريس أو الكتابة كثيرًا عن الثقافة الشعبية، باستثناء تلك الحالات التي كان لها تأثير على الأدب الذي تأثرت أنا به. أنطبق هذا على أعمال معينة من تبسيط العلوم وأدب الخيال العلمي. فيما يتعلق بكتابة ميلر وأبدايك عن ولف، بالطبع أتفق معهما، وخصوصًا ميلر الذي بدت لي مقالته النقدية ودودة ومعطاءة، وقوية، وخالية من الكراهية. لكن إذا أصبحت إحساساتنا مسطحة جدًا، متبلدة، أو حتى بهيمية، لدرجة لا نستطيع معها الشعور بالاختلافات – مهما كانت مؤقتة وغير نهائية، مهما كانت محل جدل، مهما كانت شخصية أو خاصة، فسوف تتبقى أو تظل هناك اختلافات – كحقيقة، عندئذ نكون قد فقدنا قدرًا من عقولنا، من روحنا – إنه ليس “خطًا حاسمًا فاصلاً” ذلك الذي يحاول ميلر وأبدايك ونحن أن نرسمه؛ إنه ببساطة خط حيوي. هل التخلف أو “الموضة القديمة” أن نشعر باختلاف الجوهري بين ما هو سطحي سهل وما هو صعب، ما هو زائف وما هو حقيقي، ما هو سكوني يصيبنا بالتخدير وما يشدنا إلى وجود أكثر كمالاً؟ أذكر هذا كله ومازلت راغبًا في إعطاء توم ولف ما يستحقه، كما فعل ميلر نفسه في تلك المقالة النقدية، لأن “إنسان بمعنى الكلمة” متجاوزة للحدود، حالة جديرة بالمناقشة الطويلة.
فرانك: ربما أتساءل عما تفهمه من التغيرات التي تم إخضاع المستهلك لها: الحياة الديجتال، التهجين، والواقعية المفرطة، وكلها بفعل المجتمع الموجه إعلاميًا.
إيهاب: هذا سؤال كبير جدًا لأن يعالج هنا – والعواقب غير ملموسة حتى الآن. دعني أقول، إنني برغم اندهاشي لأنه ليست هناك اليوم تناقضات كبيرة بين القيم الخاصة بطلبتي ومثلها قيمي الخاصة الآن وبين ما كان عليه الأمر منذ أربعين سنة. هل تدرك أننا قد نكون في فترة من أكثر الفترات المفعمة بالتغيير في التاريخ؟ هل أنا أناقض نفسي (فيما يتعلق بالتغيير المتسارع؟) لا أعتقد: كلنا نتغير معًا، شئنا أم أبينا، البعض بدرجة أكبر، البعض الآخر بدرجة أقل، قد تزداد الفجوة اتساعًا بالنسبة للبعض، وقد تظل على ثباتها بالنسبة للبعض أو حتى تضيق. أنت ترى، إنني لا أؤمن بأننا: مؤسسون ثقافيًا “باستثناء السطح الخارجي الذي يعتمد على الطنطنة والإطناب، بالطبع تكرار المعنى بكلمات مختلفة لا يضيف إلى ما قيل أي جديد، بمعنى من المعاني، لكن من ناحية أخرى، حياة الأيديولوجيين الصارمة هي نفسها إطناب وحشو وتكرار لا يمثل إضافة.
فرانك: لكن الثقافة بلا شك رسَّبت بعض البقايا المتشابهة، أيًا كانت، في كل فرد منا؟ أم هل تشير إلى أن “الكشف الانتقائي” عن تلك الثقافة، وأيضًا الفروق الفردية كتلك التي تنشأ عن الجينات والتربية تجعل كل وعي فردي مختلفًا جدًا، حتى إن “البناء الثقافي” (أو حتى اقتراحي الأكثر تواضعًا الراسب الثقافي) ليصبح مجرد مجاز يسمح لتلك الحالات المتعددة جدًا من حيث الاختلافات بأن تتساوى.
إيهاب: باختصار، نعم. “الراسب الثقافي” تعبير دقيق، لكنني متأثر باختلافات اللانهائية داخل حدود الفئات، والنوع، والعرق، والجنس، وحتى العائلة. نحن “مُشيدون” بدرجة لانهائية، لكننا أيضًا نقوم بتشييد مضاد. الصدفة وقوانين علم الأحياء، والخلق الذاتي للشخصية والتأثيرات الاجتماعية، كلها تلعب دورًا. “المفسرون” الصارمون الذي يميلون إلى أن يكونوا “حتميين”، يمكن أن يتهموا الآخرين ويبرئوا أنفسهم بنفس الصرخة. من الواضح، أن لهذا مردوده العظيم الجاذبية، غيث علاجي ولاهوتي في الوقت نفسه.
فرانك: انغماسي في “تجريب جيدانكن”: يفترض، إذا شئت، أننا نعيش في مناخ ثقافي يمنع أي عمل أدبي – نقدي، منطوق أو مكتوب، فهو محظور (تابوه) – كبديل عن، لنقول، المناقشة التفصيلية في تفضيلات المرء أو تجاربه الجنسية. ما الذي ستكون عليه هذه الثقافة؟ هل سيظهر نوع من النقد السري؟ هل ستضعف هذه الثقافة وتذوي قيمتها بغياب الأصوات المتاحة للنقد في العلن؟
إيهاب: “تجريب جيدانكن” يستحق شيئًا آخر. سنصل إلى ما أسميه النقد الملائكي، القراءة الملائكية للنصوص: التماهي في النصوص، في صمت أو، إن شئت، نقد بيير مينارديان: إعادة صياغة النص بكلمات مماثلة. سيكون الأمر أفضل، أليس كذلك، أفضل من تلك النوعية التي تبدأ كل مناقشة بقولها، “الآن، ما هي مشاكل هذا الكتاب؟”
فرانك: هل قرأت مؤخرًا شيئًا جيدًا؟ شيء أثَّر فيك سريعًا، وأدهشك؟ هل بوسعك تزكية أي روائيين، أو شعراء، أو كتاب مسرحيين يكتبون اليوم – بأية لغة – ويعبرون عن حالتنا ووضعنا الراهن ببلاغة واتساق؟
إيهاب: كنت أقرأ مؤخرًا لمؤلفين أستراليين. بالطبع “فوس” لباتريك وايت، إنها تجبُ الكل، إنجاز مذهل. إلاّ أن أعمال ديفيد معلوف أيضًا رائعة – أتمنى أن يحصل قريبًا على نوبل – وكذلك توماس كينيلي. و”يوكاليبتاس” لموراي بيل، والمنشورة حديثًا، وهي مثيرة في توجهها غير المباشر. وإن عدنا إلى الأدب الأمريكي، سنجد الأعمال الكبيرة مثل “ميسون وديكسون” لبينشون، و”العالم الخفي” لديللو أبهرتني، وبخاصة أعمال ديللو، لكنها لا تحركني بصفة دائمة. ربما أقول نفس الشيء عن أعمال بول أوستر، فهو استحواذي وخادع لكن على نطاق أصغر. حتى الآن، سأعطي صوتي – إن كان لي صوت – إلى دون ديللو كمستحق للجائزة، كخليفة أمريكي للكاتبة توني موريسون.
فرانك: هؤلاء هم الذين رشحتهم من عصرنا اليوم؟ ماذا عن القنفذ والثعلب نيتشه وشكسبير؟ أو بيكيت ومونتين؟ أو كافكا و”زن”؟ الغريب أنك ذكرت ديللو، أنا الآن أعمل في قطعة طويلة تتناول أعماله. ماذا عن أدبه هل تجده شيقًا؟
إيهاب: باختصار، ذكاء، وخيال، واكتمال، وبصيرة اجتماعية نافذة، وخشونة ميتافيزيقية، وفوق ذلك اللغة، اللغة، اللغة…
فرانك: تحولت إلى اتجاه روحاني (لكن ليس دينيًا). هل يمكن باختصار مناقشة العلاقة بين علم الجمال والروحانية؟ كيف يتسنى لهذه الروحانية أن ترتبط مع الثقافة الأمريكية والحياة الأمريكية؟
إيهاب: تمهل، لو أمكنني إجابة سؤال واحد من أسئلتك الكبير، إجابة بشكل نصف لائق، فسوف ينام كلانا نومًا جيدًا الليلة.
البشرية، ذلك العقل الكبير المزعج – مخلوقات متعددة الأوجه. لا يمكن تحويلها إلى أو اختزالها إلى مجرد مصطلحات مادية أو سياسية، كنموذج قياسي تقتضيه بقوة الدراسات الثقافية الآن. لا يمكن تحويل البشر إلى مجرد روح أو جمال أو لغة… ليس هذا بالإمكان، مطلقًا – مع ذلك حالما يموتون، يتحولون بسرعة شديدة إلى تراب. ونظرًا لأنه لم تتطور ثقافة، أبدًا، بدون بعض الحس الروحاني. ولا حتى ثقافتنا هذه. إلا أن هذا لا يعني أننا في استطاعتنا تعريف الروحاني، أو المقدس، أو ما فوق الطبيعي، مثلما يمكننا تعريف الدائرة أو المربع. يمتد ما هو روحاني ليشمل مجموعة واسعة من الخبرات والتجارب الفكرية، تتراوح من الحدوس أو البديهيات المشتركة إلى البوح أو الكشف الصوفي، من التقدير الجمالي إلى الشعور بالسمو، من الإلهام في العلم والفن إلى إعلانات تحقيق الخلود، وهلم جرًا. لدى الروح، بحسب رأي إمرسون، “قوة هائلة للتغيير الذاتي، التكيف الذاتي مع كل ما نفعله”. أدرك ويليام جيمس هذا، كما أدركه آخرون كثيرون، من أفلاطون إلى هايدجر، من لونجيناس حتى جورج شتاينر (في الأرواح الحقيقية). أنا مهتم باكتشاف، أو بالأحرى، إعادة اكتشاف العلاقة بين، الدوافع الروحانية للبشر وحياتنا اليومية في ثقافة السخرية، والفن الهابط، وانعدام المصداقية والإيمان والأصالة. أنا مهتم بشكل خاص بإماطة اللثام عن الرابطة بين الروح، والعدم، واللغة. اقصد بالعدم كشكل قبل أخير للصدق والإخلاص أو الوضوح والاستبصار، كما قد نجده عند نيتشه أو كيدج أو بيكيت – وأقصد هذه الأمثلة المفرطة في الانقسام على نفسها. قال كافكا، نحن الأفكار العدمية التي تنشأ في رأس الإله. لنطرح الأمر بطريقة أخرى، يقود الوعي الإنساني الشك الجذري إلى كل مكان في الكون. ثم ماذا؟ تلك نقطة الانطلاق لمقالي الحالي المسمى “تكلفة الروح في أزمنة ما بعد الحداثة: بين العدمية والإيمان”. هل “مرض الشك الشديد القاسي” (هذا هو نيتشه) يلمح إلى ميلاد أو تجدد روحي جديد؟ وبالطبع نعم، هذا الدافع الروحاني مهيمن جدًا في الطابع الأمريكي، سواء عند الأمريكي الأصلي المحلي أو المهاجر المتزمت البيوريتاني. سواء في مدرسة هدسون للفنانين التشكيليين أو حركة الفلسفة المتعالية الترانسندنتالية[2]، سواء في الديانات الأصولية أو انفجار العصر الجديد ودفقاته. تنتاب الدوافع الروحية في سرعة بعضًا من أفضل كتابنا الأحياء باختلاف درجاتها: سول بيلو، نورمان ميلر، جون أبديك، توني موريسون، جون أشبري… والقائمة طويلة، كيف يمكنني إذن تجاهها؟
فرانك: طرحت في مقالتك بدورية “جورجيا النقدية” أنه حتى إذا كان الناس آمنين جسديًا وينعمون بالراحة فسوف يظل هناك الكثير من المشاكل. “هل يمكن أن يتقلص الشر العالمي بالوسائل المادية وحدها؟ هل تتلاشى مظاهر بؤس الجماعة البشرية، أو حتى تنقص بشكل واضح، عن طريق اهتمامنا فقط بالحاجات المادية الجسدية للفرد؟” ما هو مفهومك عن “مظاهر البؤس” وهل تعتقد فعلاً حسبما رأيت أنها يمكن أن تكون بمثل ما عليه الحرمان الجسدي من سوء؟
إيهاب: ما أتصوره من بؤس يتمثل لديَّ في قابيل وأيوب، أوديب وأجاممنون، أنتيجون وميديا، كاسندرا واليهودي التائه، ياجو وإدموند، هاملت ولير، نعم، وكاليبان، من بين آخرين. بؤس شيطان ميلتون الذي يصرخ، “أنا الجحيم والجحيم أنا!” بؤس أكثر شخصيات الروايات حيوية وتنوعًا، من دون كيخوته إلى كابتن أهاب، من آنا كارنينا إلى إيما بوفاري، من إيفان كرامازوف إلى دكتور زيفاجو، من بلوم إلى مولوي – لعلك تدرك المناط هنا، أنا متأكد: إنهم يعانون جميعًا. بؤس الآلهة والخالدين أيضًا.
ليس لدي إحصاء أو حصر بالمعاناة الإنسانية، ولا أدري أيهما أكبر وأعظم، الألم الخاص برجل مشرد جائع أم ذلك الخاص بامرأة مبتلاة بمعانة روحية. إلا أنني أعرف أن كلا الحالين لا يطاق، وأن الذي يخفف عن أحدهما ليس بالضرورة يخفف عن الآخر.
لا ينبغي أن يقودنا هذا إلى أسر الخطيئة الأولى، أو إلى التسليم المسيحي التام، أو القدرية، أو حتى الرواقية، فهو مثير للإعجاب كما هو عليه وحسب. إذا أفضى بنا إلى أي شيء على الإطلاق فسوف يفضي إلى الاعتراف بالحقيقة دون انخداع، إلى حقيقة ما عليه الوضع، سواء رغبنا أم لم نرغب – إلى تصميم متعاظم على أن نسلك في الحياة بدون الخيالات أو الأوهام التي ترعرعت في ظل فلسفة السعادة[3]. إن هذا كله موجود في “بهاجافات جيتا الهندوسية”. قد تكون براءتنا الثانية لامبالية، نوع خاص من اللامبالاة، التي هي اللامبالاة الذاتية، أو اللامبالاة بالنفس.
فرانك: ما نوع الكتابة التي تقوم بها في الوقت الحالي؟
إيهاب: حسنًا، أحاول كتابة كتاب صغير عن كل شيء، بدون حواش. يمكنك أن تسميه “تأمل شخصي شبه شعري”، في الحياة، والموت، والروح في عصرنا – نوع من تلك الأشياء. العبارة الأساسية هنا هي “محاولة أن تكتب”. لأن العادية والمطروق هما الرفيق الدائم، تقريبًا للنفس الطبيعية، في هذه المغامرة غير الطبيعية.
[1] تأليف فني يقلد فيه صاحبه أسلوب مؤلف آخر، وهو خليط من قطع فنية متنوعة.
[2] كل فلسفة تقول بأن اكتشاف الحقيقة يتم بدراسة عمليات الفكر وليس عن طريق الخبرة أو التجربة.
[3] التي تجعل التماس السعادة أساسًا للسلوك الأخلاقي ومحكًا له.