محمد هاشم عبد السلام
للمرة الثانية على التوالي في تاريخه المهني اللافت، انتزع المخرج التسجيلي الإيطالي المتميز “جيانفرانكو روزي”، الجائزة الكبرى بمهرجان برلين السينمائي الدولي، المعروفة باسم “الدب الذهبي”، وذلك عن أحدث أفلامه الذي يحمل عنوان “نار في البحر” (Fuocoammare). وكان روزي قد احصل من قبل، وتحديدًا في عام 2013 على الجائزة الكبرى بمهرجان فينسيا السينمائي الدولي، المعروفة باسم “الأسد الذهبي”، وذلك عن فيلمه “الطريق الدائري حول روما”.
بات معروفًا عن روزي عبر مساره المهني الذي بدأ منذ عام 1993، أنه من نوعية المخرجين الذين يعايشون عن كثب موضوعات أفلامهم، لدرجة أنهم يصيرون في النهاية جزءًا منها. ففي فيلمه السابق، على سبيل المثال، “الطريق الدائري حول روما”، عايش روزي حياة البشر والمهمشين والمشردين الذين يسكنون حول وعلى امتداد وبمحاذاة الطريق الدائرة الذي يلتف حول مدينة روما، حتى خرج في النهاية برائعته التسجيلية تلك، التي انتزعت الإعجاب قبل سنوات.
وبعد أقل من ثلاث سنوات، ينتقل روزي إلى إحدى مناطق صقلية، وبالتحديد إلى جزيرة لامبيدوزا، حاملا كاميرته الصغيرة بغية تصوير أو التقاط بعض المشاهد الخاصة لعمليات الإنقاذ والإغاثة التي تجري على سواحلها للعديد من قوارب اللاجئين التي تتدفق على تلك الجزيرة منذ عقدين تقريبًا، كي يضعها في النهاية في سياق فيلم تسجيلي قصير عن تلك المأساة المعاصرة. لكن بعد وصول روزي إلى الجزيرة ومعاينته لما يحدث على متنها، قرر المكوث هناك لما يزيد عن عام، ليصنع فيلمًا بالغ القوة والتأثير، يجمع بين التسجيلي والروائي عن حياة سكان لامبيدوزا، ومعاناة اللاجئين القادمين إليها عبر القوارب.
لا تتعدى مساحة جزيرة لامبيدوزا الثمانية أميال مربعة، وهي تقع بأقصى الجنوب الإيطالي، برغم أنها أكثر قربًا لأفريقيا حيث تبعد 70 ميلا عن ليبيا، وتبعد 109 ميلا عن مالطا، في حين أن أقرب قرية إيطالية لها، “أجريجنتو”، تبعد عنها 127 ميلا. ويبلغ عدد سكان الجزيرة 6000 نسمة، يعيشون على الصيد، والزراعة، والسياحة الموسمية. والمصدر الوحيد للماء بها هو مياه الأمطار التي نادرًا ما تسقط ودون غزارة. وقد استقبلت لامبيدوزا خلال العقدين الأخيرين ما يقرب من 400 ألف مهاجر غير شرعي، وهلك قرب سواحلها وفقًا للإحصاءات الرسمية 15 ألف مهاجر، وهو عدد تقريبي بالطبع، وقد مر بأرضها العام الماضي فحسب، 102 ألف مهاجر. وتلك الأرقام توضح بالطبع أهمية تلك الجزيرة وإلى أي مدى تعتبر مؤثرة في عملية الهجرات غير الشرعية والدخول إلى أوروبا.
لم تأت أهمية فيلم “نار في البحر” من تناوله لواحدة من كبرى المآسي التي نعايشها في عصرنا الحديث، وإنما من طريقة تناوله لها عبر أسلوبه الذي يتسم بالجدة والاختلاف والتميز. فليس ثمة نقاش سياسي أو فتح لأية قضايا شائكة أو متعلقة بمصير هؤلاء اللاجئين والظروف التي دعتهم لهذا أو حتى الخلفيات العرقية القادمين منها، فقط تسجيل بصري بمنتهى الصراحة والحيادية لمآسي هؤلاء البشر من ناحية، ومن ناحية أخرى رصد لحياة الصيادين البسطاء، وأغلبهم من العجائز، الذين يكابدون شظف العيش، ويحيون حياة تتسم بالتقشف والوحدة والانعزال.
كما يتميز الفيلم بجدة البناء، نظرًا لأنه أيضًا، من ناحية، يتكئ في هيكله السردي على مشاهد تسجيلية حديثة لم تعرض من قبل قط لقوارب اللاجئين، وجثث الغارقين والموتى من الاختناق في المراكب. ويركز، من ناحية ثانية، على بعض الشخصيات التي اختارها المخرج بعناية من عامة سكان الجزيرة، ليعرض لنا حياتهم اليومية البسيطة، وعلى رأسهم الصبي صامويل، ابن أحد الصيادين، وهو في الثانية عشر من عمره ويعتبر بطل الفيلم، ووالده وجدته، وأحد الغواصين، وصاحب محطة راديو يلبي أغنيات المستمعين، وأخيرًا طبيب الجزيرة المقيم.
إن ما يحدث على الجزيرة مُركب بالفعل، ولذلك كان حتميًا أن يتم التعامل معه بمنطق فني مركب بدوره، يعطي لكل عنصر من العناصر حقه في الوجود على نحو مستقل، وفي الإفصاح عن عالمه الخاص بعمق وتفرد. فعلى الرغم من كل تلك الأعداد الهائلة التي تمر سنويًا بالجزيرة، والتي كان من المفترض أن تترك ولو أدنى أثر على سلوك أهلها أو طبيعة الحياة اليومية أو حتى تركيبتها الديموغرافية، نجد أن العكس تمامًا هو ما حدث، لم يهتم المهاجرون بالجزيرة أو مجتمعها أو حتى البقاء فيها ولا بصقلية عامة، فهي ليست سوى مجرد معبر لقلب إيطاليا، حيث الاستقرار النهائي أو الشروع في رحلة أخرى برية حيث الاستقرار ببلد أوروبي آخر، ولا اهتم السكان أو تأثروا بما يحدث من حولهم، وعلى مرمى حجر من شواطئهم، بما في ذلك الصبي صامويل الذي لا يكل ولا يمل، والذي يذرع الجزيرة جيئة وذهابًا نهارًا وليلا، ولذا كان روزي موفقًا في إضافته المتعمدة لتفصيلة العين الكسولة لصامويل، التي هي بحاجة لعلاج، في استعارة لأهل الجزيرة وأوروبا عامة.
ولهذا السبب كان من الطبيعي ألا يرصد روزي المهاجرين وتدفقاتهم عبر أعين سكان الجزيرة واحتكاكهم بهم، واختار أن يعرض لنا العالمين كأنما لا قاسم مشترك بينهما على الإطلاق. فثمة انفصام حقيقي بالفعل بين الحياة اليومية لسكان الجزيرة، التي تتسم بالكثير من الروتين والرتابة والملل، والعالم الذي يحياه المهاجرين – أغلبهم من ليبيا، السودان، الصومال، سوريا، نيجيريا، إريتريا، ومعظم، باستثناء النساء والأطفال، شباب في مراحل عمرية متقاربة – في معسكرات الترحيل، إذ يتم تسجيلهم والتقاط صورهم، ثم يحيون حياة شبه عادية، يصلون ويلعبون الكرة ويغنون، في انتظار ترحيلهم. وهو ينتقل مونتاجيًا طوال الفيلم بين العالمين عن طريق نقلات جمالية سلسلة تصل بين العالمين، وتربط إلى حد ما بين بعض ما هو مشترك بينهما.
إن النقطة الوحيدة الصريحة التي تربط بين هذين العالمين هي “بيترو بارتولو”، الطبيب الوحيد بالجزيرة، والمقيم على متنها منذ أكثر من 25 عامًا، وهو يروي الكثير من المآساي والأهوال التي رآها بعينيه منذ أن بدأت أولى القوارب في الوفود بانتظام إلى الجزيرة عام 1991. وبينما يجهش “بيترو” بالبكاء يضيف كيف أن الكثير من تلك المشاهد المروعة، لنساء مغتصبات وأطفال ونسوة ورجال موتى أو بهم حروق بدرجات متفاوتة، عادة ما تطارده في نومه منذ سنوات على هيئة كوابيس مريعة، وكيف أنه تحدث تقريبًا لأغلب أجهزة التلفاز والصحف حول العالم، وأنه بات عازفًا عن التحدث لفرط ما وصفه من أهوال، لكنه في النهاية لا يجد أمامه سوى التحدث لعل الرسالة تصل. ولم ينس أن يوجه اللوم للدول الأوروبية التي لا تراعي سوى مصالحها، وترفض مد يد العون بل وفوق ذلك تبني أسيجة، وتعاملهم المهاجرين بطريقة لا تليق حتى بالحيوانات، وأنه لحل تلك المشكلة من جذورها يجب خلق أوضاع إيجايبة في تلك البلدان، لأنه لا شخص في العالم يريد أن يترك وطنه، وأنهم جميعًا مجبرين.
كما عرض روزي بعض الصور الفوتوغرافية التي احتفظ بها الطبيب لحالات مروعة، منها واحدة لإحدى المراكب المكتظة عن آخرها بالركاب، والتي ظلت بعرض البحر لمدة أسبوع تقريبًا، وكان على متنها 890 مهاجرًا، وعلاوة على ذلك يشرح له كيف أن المركب ذاته مقسم إلى ثلاثة أقسام كل قسم منها له سعر خاص حسب مقدرة المهاجر، فمستوى القاع حيث لهيب الحرارة الناجمة عن المحركات ونقص الهواء والاختناق التام يصل لأقل من ألف دولار، والمستوى الثاني يصل إلى ألف دولار، وأخيرًا المستوى العلوي حيث الجزء الظاهر من المركب ويصل إلى ألف وخمسمائة دولار.
وبخلاف الطبيب، الذي يقوم بالكشف على اللاجئين القادمين إلى الجزيرة وأيضًا أهل الجزيرة، هناك حلقة وصل أخرى بسيطة، وهي الإذاعة المحلية، التي نستمع عرضًا عبرها لأصوات عملية إغاثة أو أخبار غرق مراكب أو أرقام ناجين أو وفيات، وذلك قبل أن تعاود المحطة بث أغنياتها المحلية القديمة التي يطلبها المستمعين من أهل الجزيرة، ومنها أغنية “نار في البحر”. ومن الأمور اللافتة بصريًا في الفيلم، وهي كثيرة، أننا لم نشاهد، على امتداد الفيلم، أي شمس ساطعة، فقط غيوم طوال الأيام، وسماء يغلب عليها اللون الرمادي بدرجاته، وبخلاف ذلك إما تصوير ليلي على أضواء شاحبة عندما يكون التصوير خارجيًا أو على الأضواء الاصطناعية عندما يكون داخليًا.
وبخلاف عدة مشاهد عانت من بعض الإطالة والاستطراد، وكانت بحاجة لمعالجة مونتاجية أكثر قسوة، نجد أن جيانفرانكو روزي قد تفوق على نفسه بالفعل في فيلمه الجديد “نار في البحر”، ونجح بمهارة في إيصال رسالته دون مباشرة، وبإبداع جمالي متوزان شديد الفنية، وتمّكن حتى من تجاوز فيلمه السابق “الطريق الدائري حول روما”، وفي نفس الوقت، استطاع روزي أيضًا أن يعيد بعض الأضواء إلى تلك البقعة من إيطاليا، ونقصد بها صقلية، التي لم يتناولها فيلمًا أو يسلط الضوء عليها وعلى حياة أهلها من الصيادين وطبيعة مجتمعها ولهجتها منذ عام 1947، عندما قدمها أحد أعلام الإخراج السينمائي الإيطالي، القدير “لوكينو فيسكونتي”، في رائعته “الأرض تهتز”، الذي فاز عنه بجائزة “الأسد الفضي” في مهرجان فينسيا عام 1948.